كما أن هناك فترات استثنائية في التاريخ، هناك أيضا أشخاص استثنائيون، من بين هؤلاء من كتبوا رواية واحدة أبهرت العالم ثم اختفوا، كأنهم كائنات من كواكب أخرى، جاءوا في مهمة إمتاعية ثم رحلوا سريعا. هل قالوا كل ما أرادوه مرة واحدة أم لم يكونوا مستعدين للشهرة؟ اعتبروا الشهرة مزادًا للعقل أم لم يمهلهم القدر حتى ليتبنوا موقفًا؟ اشتهر روائيون وشعراء كثيرٌ بأنهم ما اهتموا بجمع أعمالهم، ومنهم من تركوها تحت مخدتهم لترى النور بعد موتهم أو قبل ذلك بقليل، فعرفوا بظاهرة “أصحاب العمل الواحد” يقولونها ثم يصمتون. اخترنا منهم خمسة روائيين اختلفت أسبابهم.
سيلفيا بلاث «الناقوس الزجاجي»
حين أزفت الساعة بدا جلد رسغي شديد البياض فلم أتمكن من فعل ذلك كما لو أن الذي رغبتُ في قتله لم يكن في ذلك الجلد أو في الشريان الأزرق الرفيع الذي ينبض تحت إبهامي، بل في مكان أعمق وأكثر سرية. عاشت سيلفيا سنوات صعبة بعد زواجها من الشاعر الإنجليزي تيد هوز، فتسبب في إصابتها بالاكتئاب المستمر ومحاولات انتحارها الفاشلة بسبب خياناته المتكررة، كتبت سيلفيا الشعر فكان ديوانها “آرائيل” من أهم الأعمال الشعرية في القرن العشرين، والذي تم نشره بعد وفاتها بعامين، ولم تنشر سوى روايتها الوحيدة “الناقوس الزجاجي” عام 1962 تحت اسم مستعار وتضمنت حياة شبه موازية لحياتها.
انتحرت سيلفيا في 11 فبراير 1963 بعد نشر روايتها بشهر واحد في مطبخ منزلها، بعدما حشرت رأسها في الفرن وماتت مختنقة بغاز أول أكسيد الكربون، ووضعت سيلفيا مناشف مبللة تحت الأبواب الخشبية حتى لا يتسرب الغاز إلى غرف أطفالها. فازت رواية “الناقوس الزجاجي” بجائزة بوليتزر 1982 وهي تحكي عن آيستر جرينوود، فتاة أمريكية تتحدث بصورتين: صورة مباشرة عند حواراتها مع الآخرين، فتبدو طموحة للغاية وتأمل أن تحقق لنفسها مركزًا في الوسط الأدبي والأكاديمي. الصورة الثانية غير المباشرة وينقلها الراوي وهي صورة قلقة وكئيبة، بشجرة كبيرة. وصفت سيلفيا البطلة بأنها شجرة كبيرة أحد أغصانها هو الرجل الذي ستتزوج به، والأوراق أطفالها. غصن آخر يمثل مستقبلها ككاتبة، وكل ورقة هي قصيدة بخط يدها. وبينما هي تجلس على المنحدر متأملة هذه الشجرة محاولة الاختيار، تستحيل أوراق الشجر بنية اللون وتتطاير بعيدًا حتى تصبح عارية بالكامل في صورتها عن هذه الشجرة وفي الحقيقة بعدما توفي والدها وبحثت عن الأمان في رجل تزوجته، لكنه لم يكن لها كما تمنَّت.
لمتابعة الكتاب على موقع Goodreads
آنا سويل «الجمال الأسود»
أخيرًا اصطادوا الأرنب، لكن بثمن كبير جدا! لا تغامر، لا تخاطر بحياتك لأجل شيء زهيد! كن لطيفا، لا ترفس ولا تعض، اعمل بنشاط وروح عالية، فيحبك الناس. شهدت تسعينيات القرن الماضي ظهور عديد من الجمعيات المدافعة عن حقوق الحيوان، وقتها نشرت “آنا سويل” روايتها تحديدًا عام 1877، لم تكن سويل عضوًا في أي من هذه الحركات، لكنها كانت تقود عربة يجرها الحصان لتوصيل والدها لعمله كل يوم، وروايتها هذه جعلت سوء معاملة الخيل قضية عامة آنذاك، وسببٌ في الإقلاع عن استخدام “الزمام الكابح” وغيره من ممارسات سيئة ضد الخيول. لم تعتزم سويل أن تكون روائية يومًا ما، فكتبت روايتها “الجمال الأسود” حين أتمت 51 عامًا بدافع الحاجة لعمل يشجع على علاج الخيول، استمرت سويل في الكتابة 6 سنوات وفور نشر عملها كان أكثر الكتب مبيعًا لفترة طويلة. بعد نجاحها صرحت سويل بأنها لم تكتب لتتمتع بالنجاح ولم يكن لديها مزيد من الوقت، حيث توفيت بالتهاب الكبد بعد خمسة أشهر من نشر كتابها.
يحكي “بيوتي” الحصان الصغير في الرواية طفولته والتصاقه بأمه حتى بدأ يأكل العشب، وعن أول رحلة صيد والكلاب تركض بسرعة وراء أرنب بري، ينتقل “بيوتي” لمزرعة ومالكٍ جديد، فيتعلم جرَّ العربة على يد مدرب ويتعرف على الحصان “أوليفر” ذي الذنب المقطوع، ويعرف منه باقي أدوات التعذيب، منها اللجام الكابح والغمامتان على عينيه. كانت المرة الأولى التي يعرف فيها “بيوتي” إحساس وقع السوط على ظهره عندما رفض العبور على جسر ينهار ليعرف أصحابه ما يمتاز به الخيل عن البشر، حتى إن “بيوتي” كان أول من هرع للطبيب من أجل سيدة المزرعة لكن الإهمال كان سببًا في مرض “بيوتي” وجروحه البالغة، فينتقل بين المشترين وينتهي به المطاف أن يصبح حصانًا للأجرة يعيش أيامًا جائعًا وأيامًا مريضًا، تؤلمه أشكال التعذيب حتى يقابل مدربه الأول صدفة، فينتقل لمالك جديد ويعرف السرور قلبه ثانية.
لمتابعة الرواية على موقع Goodreads
مارجريت ميتشل «ذهب مع الريح»
كان الله في عون رجل أحبكِ حقا فكسرتِ قلبه كقطة شرسة ما كنت أظن أن تستخدم مخالبها يومًا. لم تكن مارجريت ميتشل من الباحثين عن النجاح الأدبي؛ فكتبت رائعتها “ذهب مع الريح” سرًّا في تحدٍّ لزميل لها سخر منها ولم يصدق أنها قادرة على كتابة رواية، حتى إنها لم تكن تنوي النشر وهي التي لازمت البيت 6 سنوات من أجل الكتابة لتنتج واحدًا من الكتب الأكثر مبيعًا في كل العصور. فازت مارجريت بجائزة بوليتزر عام 1957 وتحولت روايتها لعمل سينمائي يحمل نفس الاسم، أصبح من أفضل الأفلام التي عليك مشاهدتها، لم تحصل ميتشل على فرصة لإعادة النظر في كتابة رواية أخرى لسبب قاطع؛ حيث صدمتها سيارة وهي في طريقها للسينما عن 49 عامًا.
كتبت ميتشل عن الحرب الأهلية الأمريكية بلغة إنسانية جعلت روايتها الأكثر قربًا لقلوب القراء. تحكي الرواية عن أسرة سكارليت أوهارا فتاة أرهقت الحرب أباها ومغرمة بآشيلي ويلكس أحد ورثة الإقطاعيين، والذي لا يبادلها الحب، لتتزوج من تشارلز وهو أحد أقربائه والذي يلقى حتفه في الحرب. تتصرف هي بما لا يلائم كونها أرملة، فتزوجت عشيق أختها الثري وتسببت في موته. وبعد عودة ويلكس من الحرب أبقته على مقربة منها يعمل في ورشة بقصرها ويزداد تعلقها به، وتتزوج للمرة الثالثة في محاولة لتحسين صورتها الاجتماعية وتنجب فتاة جميلة كانت سببا في ضياعها حتى النهاية، حين اعترف لها ويلكس أنه ما أحبها يومًا، لتعود لمزرعة والدها تبدأ سعيًا جديدًا لاستعادة زوجها الأخير وحبه لها.
لمتابعة الكتاب على موقع Goodreads
إميلي برونتي «مرتفعات وذرنج»
هو يشبهني أكثر مني، فبأي شيء تتشكل الأرواح والأنفس، نظل أنا وهو الشيء ذاته. لم تجمع إميلي ما كتبته من شعر خلال حياتها حتى عندما نشرت روايتها الوحيدة “مرتفعات وذرنج” وقعتها باسم مستعار هو “إيليس بيل”؛ لصعوبة قبول امرأة تكتب في العصر الفيكتوري واعتبار الأدب من اختصاص الرجل فقط. لسوء حالتها الصحية والظروف المناخية الشاقة توفيت إميلي بالسلّ في الثلاثين من عمرها، وبعدها نشرت أختها روايتها “مرتفعات وذرنج” باسمها الحقيقي للمرة الأولى عام 1850، ربما كانت إميلي لتكتب رواية أخرى لكن أمكن للأدب الاكتفاء برواية واحدة أمسكت هي فيها بالخيوط الأولى للمتاهات المتشابكة في النفس البشرية، ونجحت في الكشف عن الأعماق الغامضة للاوعي وهي تكتب عن مدينة مازالت تحمل ذكرياتها من أيام طفولتها.
تحكي إميلي بروايتها عن هيثكليف؛ ولد لقيط غجري يجده إيرنشو الكبير ويعتبره هدية الله له لينشأ وسط أولاده، لكنه يقابل من هندلي الظلم والإهانة ويطرده بعد وفاة والده ويسكنه مع الخدم، لتبدأ علاقة حب قوية بين هيثكليف وكاثرين إحدى بنات إيرنشو، وهي العلاقة التي أتت عليهما بعدما عرفت الأسرة لتطرده وتحبسها وتزوجها من إدجار. يعود هيثكليف بعد ثلاث سنوات وتعود كاثرين لعهد حبها وتقع في حبه إيزابيلا أخت إدجار هي الأخرى، ليشتعل البيت بأطرافه ويهرب هيثكليف وإيزابيلا التي أذلها واستخدمها للقاء كاثرين خفية، ليغمر الحب آخر لقاء بينهما قبل وفاة كاثرين وهي تضع ابنتها، ويملك هيثكليف المرتفعات وبصحبته ابن هندلي ليعامله كخادم، ويسعى لتدمير حياة الأحفاد العاشقين لأبناء عمومتهم حتى لا ينازعه أحد في الملك، لينتهي أمره برِجل مبتورة في حادث صيد، يعامله الأحفاد كالميت ويتقارب مع ابن هندلي.
لمتابعة الكتاب على موقع Goodreads
بوريس باسترناك «دكتور زيفاجو»
وكما هو معروف فإن باسترناك واحد من أعظم شعراء القرن العشرين، ولكن في فن الرواية كتب ملحمته “دكتور زيفاجو” فقط. هي الرواية التي كتبها باسترناك وأخرجها ديفيد لين فيلمًا بنفس الاسم، وحصد بها خمس جوائز أوسكار. تحكي الرواية عن الطبيب الواقع بحب امرأتين خلال عقود الثورات والقمع الشيوعي, فهي الرواية التي تحدت الشيوعية في عقر دارها، وانتقدت البلاشفة، ليمنعها الاتحاد السوفيتي في 1958، على عكس المخابرات البريطانية التي ساعدت في نشرها لتستخدمها كسلاح دعائي قوي، كما استخدمتها إيطاليا ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتقوم بنشرها في موسكو والدول التابعة للاتحاد السوفيتي, لتتصدر الرواية قائمة أكثر الكتب مبيعًا لمدة ستة أشهر في صحيفة نيويورك تايمز. تم تهريب مخطوط الرواية من روسيا وبدأت شهرتها من الخارج حتى فاز عنها باسترناك بجائزة نوبل عام 1958، فرفضت روسيا أن يتسلمها وأجبرته على رفض الجائزة مقابل المنفى أو السجن، ومن بعدها عاش باسترناك معزولا وتوفي بعد عامين بسرطان الرئة ولم يكن شرع في أي رواية أخرى.
لمتابعة الكتاب على موقع Goodreads
المصدر: ساسة بوست