لا يوجد إجماع بين مؤرخي الحداثة حول بداية محددة لميلادها؛ فثمة من يؤرخ لها بدءاً من القرن السادس عشر، وآخر يقصرها – ربما – على قرنين فائتين، وترجع علة ذلك بالأساس إلى تعدد حقولها الدلالية التي طالت كل مستويات الوجود الإنساني وأبعاده الحياتية، فلا مجال إلا وطالته أصابع تشكيلها، متنقلة من البعد التقني إلى البعد الجمالي، ومن المستوى الاقتصادي إلى المستوى الفكري والفلسفي، مما يدفع كل طرف إلى سوْقها وفقا لتاريخ بلوغها فرعه المعرفي. وقد أدى ذلك إلى التباسات جمة أحاطت المفهوم بهالة من الغموض Obscurity دفعت البعض إلى اعتبار الحداثة غير قابلة لـ “المفهمة”، وقد انتقل غموضها هذا إلى خَلَفِها “ما بعد الحداثة” كما سيرد ذكره بعد ذلك. ولا تختلف الحداثة فى ذلك عن العديد من مفاهيم العلوم الاجتماعية([1]).
وإذا بدأنا بالاشتقاق اللغوي، نجد أن كلمة حداثة فى اللغة العربية من الفعل “حدث” فالحَدِيثُ نقيضُ القديم، والحُدُوثُ نقيضُ القُدْمة. حدث حَدَثَ الشيءُ يَحْدُثُ حُدُوثاً وحَداثةً، وأحْدَثَهُ هُوَ، فَهو مُحْدَثٌ وحَدِيثٌ، وكذلك اسْتَحْدَثَهُ([2]). وتُشتق كلمة Modernity من الكلمة الإنجليزية Modern وهي مشتقة بدورها من الكلمة اللاتينية Modernus والتي ترجع إلى كلمة لاتينية هي Modus وتعني مقياس أو منهج أو نظام. ومن الكلمات المشتقة من نفس الجذر كلمة Modo وتعني “مؤخراً” أو “لتوه”. ومصطلح “حديث” Modern مصطلح خلافي للغاية، فهي ككلمة من المفترض أنها محايدة، إلا أنها ليست كذلك فى الواقع، فعادةً ما توضع فى مقابل “تقليدي” أو “قديم” وتصبح كلمة معيارية، وتعنى أن الحديث أفضل من القديم؛ ويرجع ذلك لارتباطها بكلمة التقدم ([3]). وقد بدأ استخدام كلمة حديث Modern فى اللغة الإنجليزية منذ عصر إليصابات حسب المعنى الجاري كمقابل لكلمة قديم ([4]). وكانت الكلمة قد استُخدمت بصيغتها اللاتينية Modernus للمرة الأولى فى أواخر القرن الخامس الميلادي بهدف التمييز بين الحاضر Present الذي أصبح مسيحيا على المستوى الرسمي والماضي Past الروماني الوثني ([5]).
(1) Clus Offe: Modernity and the State, East, West (USA: Polity Press,1996) P: 5.
(2) ابن منظور: لسان العرب، المجلد الثاني (القاهرة: دار المعارف، د.ت) ص: 796.
(3) عبد الوهاب المسيري: التحديث والحداثة، بحث فى كتاب “الحداثة وما بعد الحداثة” (طرابلس: جمعة الدعوة الإسلامية العالمية، 1989) ص: 60 – 61.
(4) كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001) ص: 16.
(5) Jürgen Habermas: Modernity versus Post modernity, New German Critique, No. 22, Special Issue on Modernism. (Winter, 1981), P: 3.
See to, Joseph Natoli and Linda Hutcheon: A Postmodern Reader (New York: State University of New York Press, 1993) P: 92.
– Krishan Kumar: From Post- industrial to Post-modern Society, New Theories of the Contemporary World (Oxford: Blackwell Publishing, 1995) P: 91.