أما الحداثة اصطلاحاً، فقد تعددت الرؤى وتنوعت حول مفهومها، فعرّفها البعض بأنها حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت فى الغرب ثم انتقلت آثارها إلى العالم بأسره، مع اختلافهم فى تحديد مدة هذه الحقبة، فمنهم من قال إنها تمتد على مدى خمسة قرون كاملة، بدءاً من القرن السادس عشر بفضل حركة النهضة وحركة الإصلاح الديني، ثم حركة التنوير Enlightenment والثورة الفرنسية، تليهما الثورة الصناعية، فالثورة التقنية، ثم الثورة المعلوماتية، ومنهم من جعل هذه الحقبة التاريخية أدنى من ذلك، حتى رجع إلى قرنين فقط ([1]).
وعرّف آخرون الحداثة بصفات طبعت عطاء هذه الحقبة، مع اختلافهم فى التعبير عن هذه الصفات وعن أسبابها ونتائجها؛ فمن قائل أن الحداثة هي “النهوض بأسباب العقل والتقدم والتحرر”، وقائل أنها “ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتقنية: السيادة على الطبيعة والسيادة على المجتمع والسيادة على الذات”، بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة، فيقول إنها “قطْع الصلة بالتراث” أو إنها “طلب الجديد”، أو إنها “محو القدسية من العالم” أو إنها “العقلنة” أو إنها “الديمقراطية” أو إنها “حقوق الإنسان” أو “قطع الصلة بالدين” أو إنها “العلمانية” Secularism. وأمام هذا التعدد والتردد فى تعاريف الحداثة، لا عجب أن يُقال كذلك إنها “مشروع غير مكتمل” وفقا لما أعلنه الفيلسوف الألماني “يورغن هابرماس Jurgen Habermas (1929 – ؟) ([2]).
والحداثة هي ظهور ملامح المجتمع الحديث المتميز بدرجة معينة من التقنية والعقلانية والتعدد والتفتح. وفي قول آخر هي ظهور المجتمع البورجوازي الغربي الحديث فى إطار ما يسمى بالنهضة الغربية أو الأوروبية، هذه النهضة التي جعلت المجتمعات المتطورة صناعياً تحقق مستوى عالياً من التطور مكّنها ودفعها إلى غزو وترويض المجتمعات الأخرى؛ مما أدى إلى ما يسمى بصدمة الحداثة، وخاصة بالنسبة إلى المجتمعات التي تلقت نتائج الحداثة من دون أن تكون مهدها أو مخاضها المباشر. إنها إذن خلخلة تتفاوت قوة وعنفاً فى جميع مستويات الحياة التي عانت الحداثة، إما داخليا أو نتيجة صدمة خارجية. فالحداثة تُخرج هذه المجتمعات من دائرة التكرار والاجترار والمراوحة وتفجر دينامية التحول. بما يستتبع ذلك من اهتزاز فى القيم والعادات والهويات، ومن تقطعات تلحق وتيرة الاتصال والاستمرار ([3]).
ويرى آلان تورين أن فكرة الحداثة تتمثل فى التأكيد على أن الإنسان هو ما يفعله، بما يعني أن ثمة صلة وطيدة بين الإنتاج الذي أصبح أكثر فعالية بفضل العلم والتكنولوجيا والإدارة من جانب، وبين تنظيم المجتمع الذي ينظمه القانون والحياة الشخصية وتنعشه المصلحة، وكذلك الرغبة فى التحرر من كل الضغوط من جانب آخر. ويتساءل على أي شيء تقام هذه الصلة بين ثقافة علمية ومجتمع منظم وأفراد أحرار إن لم يكن على انتصار العقل؟ معتبراً أن العقل وحده هو الذي يعقد الصلة بين الفعل الإنساني ونظام العالم، وهذا ما كان يبحث عنه الفكر الديني من قبل، ولكنه كان مشلولاً بسبب الغائية الخاصة بالأديان التوحيدية القائمة على الوحي. والعقل هو الذي يهب الحياة للعلم وتطبيقاته، وهو أيضا الذي يتحكم فى تكييف الحياة الاجتماعية مع الحاجات الفردية والجماعية. وهو أخيراً الذي يضع سيادة القانون والدولة محل التعسف والعنف. وعندما تتصرف الإنسانية وفقا للقانون تتقدم نحو الوفرة والحرية والسعادة ([4]).
(1) طه عبد الرحمن: روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ط1 (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2006) ص: 23.
(2) طه عبد الرحمن: روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مرجع سابق، ص: 23.
(3) محمد سبيلا: مدارات الحداثة، ط1 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009) ص: 123 – 124.
(4) ألان تورين: نقد الحداثة، ترجمة أنور مغيث (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1997) ص: 19.