الأهرام تحتفل بذكراه
صلاح جاهين ..فيلسوف وشاعر ظلمه النقاد
رفض الانتماء للحزب الطليعي واشترط أن يفرج ناصر عن سجناء الرأي
كتبت : سمية عبدالمنعم
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جَرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج .. قمتو ليه خفتو ليه
لا فْ إيدي سيف ولا تحت منى فرس
بعد مرور 31 عاما من وفاته ومازال النقاد منشغلين بتصنيف جاهين سياسيا عن علاقته بعبدالناصر وحالته النفسية السيئة بعد النكسة .فكان حكمهم السياسي عليه مجتزأ أهمل جاهين كظاهرة شعرية وثقافية.
بل ان هناك من حصر شعره بين قصائد قدمها للنخبة وشعر غنائي قدمه للجمهور وهو ما يظلمه كثيرا فهو شاعر ينظر للمواقف كافة برؤية موحدة ولديه تصور خاص به في كل القضايا .
وترجع تلك الحيرة في تصنيف جاهين وشعره إلى الفصل والتمييز بين المدارس الشعرية وانماط الشعر المختلفة ..الفصحى والعامية وقصيدة النثر ، حتى وصل الأمر ببعض النقاد والنخبة لنفى صفة الشعر عمن يكتبون بغير الفصحى .
وبالطبع لم يسلم جاهين من ذلك الصراع الذي يبدو ابديا ، فجاءت أحكام بعض النخبة المثقفة بالفصل بين كونه شاعرا وفيلسوفا وبين ما يكتب من شعر .
وعن تلك الإشكالية دارت المناقشة في الندوة الشعرية التي أقامتها الأهرام بصالونها الثقافي مساء الاربعاء احياء للذكرى الواحدة والثلاثين لوفاة الشاعر صلاح جاهين .
حيث أدار الأمسية د.جابر عصفور وشارك في المناقشة كل من الشاعر بهاء جاهين وأمين حداد ومسعود شومان ، ود.سيد ضيف الله استاذ النقد الأدبي بكلية الآداب جامعة القاهرة، حيث بدا د.جابر عصفور بفتح باب المناقشة بتأكيده انه ينتمي لذلك الجيل الذي تأثر كثيرا بشعر فؤاد حداد وصلاح جاهين ، ثم طرح ذلك التساؤل :هل لأشكال ولهجات الشعر المختلفة تمييز على بعضها؟ فهل لشعر الفصحى مكانة تميزه عن الشعر العامي وهل للشعر العمودي والشعر الحر تميز على قصيدة النثر ؟
في البداية قال الشاعر مسعود شومان ان شعر جاهين يمكن تصنيفه على انه ينتمي للشعر الشعبي الذي لمس وناقش قضايا الغلابة والمهمشين واستمد مفرداته من بين ألسنة الشعب البسيط وهو ما جعله يصل إلى القلوب كما لم يصل غيره من الشعراء .
وتحية لذكراه العطرة ألقى شومان قصيدة مطولة عن جاهين الشاعر والإنسان اختتم بها كلمته.
وعن علاقته به كإنسان وصهر قبل ان يكون شاعرا ، تحدث أمين حداد زوج ابنة جاهين ، والذي وجه شكرا وامتنانا لا ينتهي للشاعر الراحل الذي زاده شرفا بجعله ينتمي الى عائلته بكونه زوج ابنته ووالد أحفاده .
وعنه كإنسان كان يسكنه إيمان وثقة مطلقة في الله، وهو ما استدل به بسرده لموقف عاشه معه أثناء قيامهما بفريضة الحج ، حيث عجزا من شدة الزحام عن الوصول إلى قبر الرسول ، فما كان من جاهين الا ان قال لزوج ابنته “خليك في ضهري” ولم يكد يفعل _والكلام لحداد_ حتى وجد نفسه هو وجاهين امام القبر مباشرة مما أثار ذهول حداد فسارع يسأله ” كيف حدث ذلك ؟” فأجابه جاهين ” قلت لو ان الرسول عايزني هيخليني اوصله”
بينما قال د. سيد ضيف الله استاذ الأدب والنقد بآداب القاهرة ، ان جاهين قد تعرض لانتقاد وحرب ضروس حاولت ان تنال من شعره وتسخفه ، وهو ما تحدث عنه في احدى قصائده..والتي كتبها صلاح مستعرضا ما واجهه من محاولات رفض وإقصاء من أوصياء الشعر .الذين كانوا يرفضون اي جديد..الا انه كان يواجه محاولاتهم تلك بالسخرية وبالمزيد من الشعر.
وأضاف د.سيد انه كانت هناك الكثير من المحاولات لوضع جاهين في خانة محددة بين الشعر الشعبي وشعر الرسم، حيث أطلق رجاء النقاش عليه شاعرا شعبيا ..
كما وضعه يحيي حقي من بين ثنائية شعر الجد والهزل في دائرة شعر الهزل …لكنه باختياره هذا قد ظلمه كثيرا، ذلك ان جاهين إنما يقدم الجد في صورة الهزل .فهو فيلسوف يطرح فلسفته بالعامية .
الا انه و بعد مرور 60 عاما لم يتوقف النقاد والنخبة عن تسكين جاهين في نوع محدد ودائما ما يختارون بين الثنائيات .فهناك بعض الدراسات الحديثة التي تحاول الحكم على شعره من خلال احتوائه الفاظا فصيحة وهذا لديهم هو سبب كاف ووحيد لتصنيفه بالشعر الجميل وليس هناك من سبب غيره.
ويضيف د.سيد ان تلك المحاولات كانت كلها بغرض احتواء جاهين كشاعر ورفض ما يقدمه من شعر.
الا ان هناك من النقاد من استطاع ان يحكم على جاهين بعيدا عن تلك الاشكالية فقد قدم الناقد غالي شكري تصورا للشعر الحداثي ووصفه بان له جناحين أحدهما الفصحى والآخر العامية ، حيث بدأ الأخير بفؤاد حداد الذي اختلف ما قدمه من شعر عما وجد قبله وهو الامر نفسه الذي حدث في شعر الفصحى عندما جاءت نازك الملائكة بمدرسة شعرية اختلفت عما قبلها .
اذن فما قدمه جاهين وحداد كان صورة جديدة للشعر تختلف عما قدم من قصائد قبلهما.
ويسوق د.سيد بعضا من الصور الشعرية المميزة والتي حملت من الاستعارات والمجازات ما اختلف عما سبقها.
الْقَمْحْ مِشْ زَىّْ الدَّهَبْ
الْقَمْحْ زَىّْ الْفَلاَّحِيْنْ
عِيْدَانْ نَحِيْلَهْ
جَدْرَهَا بْيَاكُلْ فِى طِيْنْ
زَىّْ اسْمَاعِينْ وِمْحَمَّدِينْ
ففي تلك القصيدة حاول جاهين تقديم صورة شعرية مختلفة عما هو دارج من وصف القمح كالذهب وهي استعارة ميتة وتقليدية.
فجاء تشبيهه القمح بالفلاح في محاولة منه لانسنة الشعر والاقتراب من الإنسان فكان هذا هو الجديد والمختلف.
وكذلك قال :
كنت بشرب عصير قصب من مده
والمعلم واقف قصاد العده
ينشف العود ده ويلتف للعود ده
شفت تفل العيدان تلول خدت عبره
فهي ايضا تعد صورة مختلفة عن التقليدي والمستهلك.
فقد عمد لتقديمه صورة صراع الإنسان مع الإنسان لكنها لم تكن لديه تصورا قبليا بل كانت من أجل الإنسان وهي لا تعمم بل ان جاهين الانسان قد يتعاطف مع العدو إذا اقتنع ولامس قلبه مثلما فعل مع جون كينيدي .
وعن تميزه وقدرته على الربط بين اللغة والصورة الشعرية….كانت مثلا قصيدته “دموع ورا البراقع” :
بنجمه يمين ونجمه شمال
يقشّر موزه ويأشّرعلى المحضر
ويبعت عسكري يجيبني مع المحضر
وأصبح إسم يتكفن بكل لسان
من السكان
وهي صورة توضح مدى استهانة السلطة في التعامل مع المواطن البسيط.
يكفن على كل لسان…
وهي من الصور التي لم ترد من قبل ..اذا فقد الإنسان سمعته بدخول القسم .
ويردف د.سيد قائلا إننا إذا تجاوزنا الثنائيات الظالمة لجاهين فإننا سوف نتناول ظاهرة شعرية اسمها جاهين مؤمنا وصادقا في كل ما يقدم.
وهو ما جعله يكتب في الثمانينات عن عبدالناصر قائلا انه لم يكتب عنه طامعا في شيء …بل ما جعله يكتب في هذا المسار منذ البداية هو إعجابه الشديد بشعر فؤاد حداد وانشغاله دائما من منهما اشعر هو ام حداد في مدى حبه لناصر.
فيما كان للكاتبة الصحفية امينة النقاش مداخلة أوضحت بها كيف ان جاهين رغم إيمانه وحبه لناصر الا أنه كان مؤمنا أكثر بالحرية والديمقراطية، فسردت في ذلك إحدى الحكايات التي عاشتها شخصيا بأن التنظيم الطليعي دعا جاهين للانضمام إليه في الستينيات فجاء رد جاهين قائلا : انا لن اوافق على الانضمام الا بعد ان يحرر عبدالناصر كل سجناء
بينما اختتم د.جابر عصفور تلك المناقشة واضعا حدا وإجابة ربما تبدو شافية لذلك الجدل بأن هناك 3 أنواع من القصائد قد ظهرت معا ..العامية ولها طرائق محددة وهي ترى العالم بشكل مختلف عن القصيدة التي كان يكتبها عبدالصبور وغيره وكذلك قصيدة النثر التي كان لها طرق مختلفة ..وتلك الانواع الثلاثة لكل منها منظور ووسائل فنية في النظر للعالم، وهو ما يستوجب معه ان تدرس كل جماليات كل نوع دون المقارنة بينها ولذلك فلا يجب ان نظلم جاهين في الحكم على شعره بل يجب ان نبحث عن جماليات في ذلك الشعر فقط وليس من خلال ازدواجية او المقارنة بين الفصحى والعامية.
فقصيدة جاهين كانت مؤسسة للقصيدة العامية المصرية التي لاتقل أهمية عن الأنواع الأخرى .
ثم اختتمت الندوة بأمسية شعرية احياها الشاعر بهاء جاهين حيث قام بإلقاء بعض من قصائد والده بصوته وادائه اللذين يتشابهان الى حد بعيد مع صوت واداء والده .