نداء الإقلاع في مطار ميلانو يعلن عودتي لبلدي بعد خمس سنوات من الدراسه ، بدأت رحلتي في سبتمبر 2011 ، وانتهت في مايو 2016 . عودتي لمنزلي بعد رحلة طويلة، اخترتُ دراستي وفضلتها على كل شيء وجعلتُ مستقبلي هو همي الوحيد ، باختياري أنا حققت طموحي ، ها هي شهادتي في حقيبتي تفوّق مع مرتبة الشرف، وها هي نظارتي تشهدُ على تعبي وسهري طوال الخمس سنين ،كسبتُ شهادتي وعروض وظيفية في كثير من الشركات في مختلف البلدان.
بالمقابل خسرتهم، خسرتهم جميعاً باختياري انا ، بكامل ارادتي قررت قتل قلبي ورميه بعيداً، لم أندم ولن أندم أبداً!!
لماذا ؟ لاني نزفت بسبب قلبي كثيراً، لان عينيّ ملت البكاء والسهر والإنتظار، لان قلبي أعماني عن الرؤية ، عن رؤية مستقبلي وحياتي وعن رؤية نفسي، قررت أن أخسرهم للأبد وأن أعيش لنفسي فقط .
وهذا فعلاً ما حدث ، لأني قررت خسارتهم فعلاً ها أنا أصعد الطيارة ، أخطو أول خطوة نحو منزلي مبتسماً وفخوراً وسعيداً بما أصبحت عليه، ولكن لم أكن أعرف أني أيضاً عائد للذكريات ولقلبي الذي رميته منذ سنوات ، بدأت الطيارة بالإقلاع إلى مصر
أستيقظ على إعلان الهبوط ، هذه سماء وطني وهذه أرضها وهذا أنا مقبلٌ عليها بغير ما غادرتها به!
استقبلني أخي ، أُحدثه طوال الطريق عن حياتي وعن انجازاتي وعن شهادتي وعروض العمل بكل فخر واعتزاز وسعادة، أحدثُه عن كل هذا مدعياً ان هذا همي بالحياة شهادتي وعرض العمل وتفوقي .
لا أعرف هل أردتُ أن أقنعه بأني فعلاً تغيرت، أم أقنع نفسي انا أني أصبحت شخص آخر !!
عودتُ نفسي ألا اشتاق لأي شيء وأن أفقد الإحساس تماماً الا عن حب نفسي واشباع طموحها .
دخلت المنزل لم يختلف شيء علي فَقَط بناء ملحق بالخارج ، مازالت اشجار الحديقة كما هي ربما اكبر قليلاً ، بعض الزهور وكثير من الذكريات التي بدأت تعود شيئاً فشيء ، وكأني رميتُ قلبي قبل خمس سنين بمكان قريب من هنا !!
انتهيت من اشتياق عائلتي وترحيبهم الحار بي ، وتفحصهم لي بهل فعلاً أصبحت شخص آخر أم لا، صعدتُ الى غرفتي وأنا أفتح باب الغرفة ، صوت أمي من الطابق السفلي تقول لي لم نغير شيء في غرفتك ، كل شيء كما تركته قبل خمس سنين!!
دخلت غرفتي ومكتبي كما هو لم يختلف عليّ، منقوش عليه بعض العبارات والحروف التي كانت تعني كثيراً من الأمور ايام الثانوي ، لكن لا لقد نسيت لقد تغيرت لا أعرف ماذا تعني هذه الرموز ، ثم من قد يكتب مثل هذه العبارات التافهة على الطاولة، وكأني لست فقط أنكرها بل أنكر تاريخي وذكرياتي ، سرعان ما أبعدت نظري عن مكتبي هرباً من أن أتذكر!!
هربتُ بعينيْ كي أرى سريري ، لا أصدق حتى فراش سريري لم يتغير !! أخذته غاضباً ورميته خارج غرفتي ، وأخبرت الخادمة أن تحضر لي فراش آخر. محتجاً أنه غير نظيف.
حتى الآن نجوت، ولكن أشعر بأن قلبي ينبض بالقرب مني!!
تنهيده ثقيله ثم فتحتُ درجي لأبدأ بترتيب أشيائى فيه…..
هنا كانت نهايتي، هنا كان قلبي يختبأ ، هنا كلُ ذكرياتي، هل تصدق خمس سنين ابتعدتُ فيها كي أعود وأجد عطرك الذي اهديتني اياه موجود أمامي ليذكرني من جديد !!
كان هذا عطرك المفضل، في تخرجنا من الثانوية أعطيتني إياه وأعطيتك أنا ساعتي، انظر صديقي الى القدر عطرك مازال هنا ، في حين رحلت أنت!! كان قلبي مع هذا العطر، سقطت اغراضي من يديّ لا ارادياً، أمسكت بالعطر بقوة ، شممته قليلاً وأرجعته مكانه، هممتُ بالابتعاد ولكن لم استطع وكأن ذاكرتي رجعت لي !!
أخذت العطر مرة أخرى بقبضة أقوى ، وأخذت أشمه بقوه وبطء لدقائق طويلة ، ثم أن صوت عقلي ينادي لا تضعف الآن بعد كل ما مررت بهِ، لا لن أضعف اتجهت إلى نافذة غرفتي ورميت العطر من الطابق الثالث بعيداً ، كما أخذتُ حبك وذكرياتك من نافذة قلبي ورميتها قبل خمس سنين!!
مشيت بضع خطوات لمكتبي لكي أجلس واسترجع نفسي، أسندتُ يديّ على الطاولة ورميتُ رأسي بينهما، أغلقت عينيْ شهيق بصعوبه ، ثم فتحت عينيْ لكي أرى تلك النقوش على الطاولة مرة أخرى، ضحكت بسخرية لماذا كل ما حولي يريدني أن أتذكرك في حين أنت من رحلت ولست أنا!!
أتذكر هذا النقش حرفي بجانب حرفك ، كنت وقتها أحدثك بالهاتف في وقت كنا يجب أن نذاكر لاختبار في اليوم التالي ، نتحدث عن يومنا بالمدرسة والمقلب الذي قمنا به لمدرس اللغة العربية نضحك على موقف محرج من طالب معنا بالفصل وتستمر أحاديثنا حتى الصباح، هكذا كنا يا صديقي لماذا رحلت وتركتني؟! ألم تشتق لأيامنا؟!
ماذا أفعل؟ لا يجب علي تذكر الماضي لا يجب أن أهدم ما بنيْته في خمس سنين!!
هممت بالخروج من الغرفة ، فتحت الباب ولكن مازال ذاك الفراش اللعين عند الباب لم تأخذه الخادمة بعيداً عني!!
إني استسلم لك يا صديقي لم أعد استطيع أن أكابر، رجعت لغرفتي واغلت الباب وارتميت خلفه مسنداً ظهري عليه ، كانت ليلة خميس ومباراة لفريقنا المفضل شاهدنا المباراة في مقهى شعبي واحتفلنا بعد المباراة لحصول فريقنا على البطولة ، خرجنا من المقهى، ونحن نتمشا بالسوق ، لمحت انت محل يبيع فراش نوم عليه شعار فريقنا، ثم أردت أن نلقي نظرة على ذاك المحل فذهبنا واشترينا فراش واحدٌ لي وآخرٌ لك متطابقين وعليهم شعار فريقنا!!
خمس سنوات ومازال هذا الفراش هنا يا صديقي، هل تتذكر؟ أم أنك نسيت كل شيء!
قاطع شريط ذكرياتنا صوت امي تناديني ، هنا استيقضت من غبائي لن أضعف لن استسلم فأنا لم أعد أحبك لقد نسيتك للأبد لذا ارحل ولا تعد أبداً، ارحل من عقلي ومن تاريخي!!
لا أتذكر كيف خرجت من غرفتي كالمجنون وقفزت درجات السلم هرعاً ،ووصلت لخارج المنزل حيث رميت العطر، رائحة دم يدي اختلطت مع رائحة ما تبقى من زجاج العطر بين يديّ
بصوت مخنوق وأنا أبكي … أنا آسف ، آسف فما أزال أحبك يا صديقي لا استطيع العيش من دونك لقد كنتُ كالميت لمدة خمس سنوات، ارجوك عد إليّ عد لأيامنا وذكرياتنا، عد لمغامراتنا ومشاكلنا، صديقي أخي روحي .
هل تتذكر حين كنا نهرب من المدرسة ونقفز السور ، ثم نركب حافلة مواصلات عامة .
ألم تشتق لأيامنا ؟ ولكن أنا اشتقت إليك أنا أتقطع من دونك، أصبحتُ وحيد بعدكَ ، عزلت نفسى عن العالم ولم أعد أرغب بشيء !
يقطع نوبة بكائي عليّك صوت أخي ، قائلاً ماذا بك لقد اعتقدت بأنك تجاوزت الأمر، اطلب له الرحمة خمس سنوات من وفاته ولم تستطع أن تنسا .
رحة الله على عزيز توارى تحت التراب