تعرّف على الأسس الفلسفية للحداثة (1) – د. محمد عجلان
قامت الحداثة الغربية على ثلاثة أسس: الذاتية، أو الإيمان بقيمة الإنسان كذات حاضرة وليس مجرد جزء من كيان أوسع، والعقلانية، أي اعتبار العقل هو المعيار والمرجعية فى التعرف على العالم والحكم على الأشياء، فهو معيار القبول أو الرفض، ثم الإيمان بفكرة التقدم، بمعنى أن العالم يتحرك فى خطوات ثابتة دائما نحو تحقيق الأفضل.
أ- النزعة الإنسانية:
لم تكن كلمة “هيومانزم” Humanism معروفة لا للقدماء ولا لعصر النهضة، وإنما صاغها المفكر الألماني “نيثامر” F. J. Nietjammer أثناء مجادلة حول مكانة الدراسات الكلاسيكية فى التعليم الثانوي، أما من طبقها على عصر النهضة، فقد كان المؤرخان بروك هاردتBruch Hardt وفويجت G. Voigt فى كتاب “إحياء الكلاسيكيات القديمة أو القرن الأول للهيومانزم” 1859 ([1]).
وتعني النزعة الإنسانية مركزية الذات ومرجعيتها، فهي كل نظرية أو فلسفة تتخذ من الإنسان محورا لتفكيرها وغايتها وقيمها العليا، أو بمعنى آخر، فهي كل فلسفة تخص الإنسان بمكانة ممتازة فى هذا العالم، وتعزو إليه القدرة على المبادرة الحرة والإبداع، وتعتبره متجليا بالوعي وبالإرادة؛ وبالتالي مسئولا عن أفعاله وعن تحرره ([2]). ويعرفها هايدجرM. Heidegger (1889 – 1976) بأنها تصور خاص عن ماهية الإنسان، لم ينشأ إلا فى أحضان الفلسفة الحديثة، ويتحدد ميلاده بالعصر الذي أصبح فيه الإنسان ذاتا Subject اعتبرت هي الأساس والمركز. وتعد لحظة الفلسفة الديكارتية (القرن السابع عشر) بداية فعلية لحلول عهد الإنسان ([3]).
لذا يمكن القول أن مفهوم الذاتية Subjective هو أول المفاهيم التي شكلت قاعدة الحداثة فى الحقل الفلسفي. يقول “فيتو”: “الحداثة هي أولوية الذات، انتصار الذات، ورؤية ذاتية للعالم”، ومعنى ذلك أن إنسان العصر الحديث أضحى يرى نفسه كذات مستقلة، ذاته هي علامة على صاحبها وبيان لحاملها، إنية لا تكتفي بأن تعلن عما يميزها عن الطبيعة، بل تروض هذا العالم وتغزوه لكي تجعله، بمختلف كائناته ومستويات إدراكه، مُقاسا بالمقياس الإنساني ([4]). ولذا أصبحت مركزية الإنسان هي السمة الأساسية لاهتمامات الإنسانيين فى عصر النهضة، وهي التي جعلت موضوعات كتاباتهم تدور فى فضاء جديد يعبر عن رؤية مختلفة وعن حس مختلف للحياة ([5]).
ويشير مصطلح النزعة الإنسانية إلى معنيين: أحدهما تاريخي، والآخر مذهبي، فهو عند ييجر وأتباع مدرسته الذين يكونون النزعة الإنسانية التي ظهرت فى أوروبا من القرن الرابع عشر حتى السادس عشر ذو معنى تاريخي، وذلك بإحياء التراث اليوناني من جديد ومعاناة تجربة حية عن طريقه، وهو ما يتم بتمثله ونقله من الماضي إلى التطبيق على الحاضر. أما المعنى المذهبي، فيمثله أنصار المذهب الوجودي، وتختلف النزعة الإنسانية لديهم عن أصحاب المعنى التاريخي؛ لأنه لا يعتمد على تجربة روحية تاريخية، بل على مذهب قائم برأسه فى فهم الوجود على أساس أن مركز المنظور فيه هو الإنسان، وأن الوجود الحق أو الوحيد هو الوجود الإنساني([6]).
لقد كان مشروع الإنسانية موجها للتحرر من أسر عالم العصور الوسطى وقيوده وخرافاته، دفاعا عن حق الإنسان فى أن يمتلك الحرية لتحديد مشروع حياته بطريقة مستقلة. ذلك أن الدين المسيحي – إبان العصور الوسطى – غرس فى العقول جميعا نزعة زهدية تحيل إلى اعتبار إنكار الذات مثلا أعلى، يجب أن يُتخذ أساسا لكل كمال شخصي واجتماعي، بحيث لم يبق متسع لتحسين النظم والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية. وكانت الكنيسة والنظام الإمبراطوري والإقطاع يتبنون نظرة للبناء الكوني، يستتبعها نظام من القيم والمعتقدات والعادات والسلوكيات، يتوجب على الجميع إتباعها. وكان الشغل الشاغل للفلسفة المدرسية هو المقولات المنطقية والتساؤلات الميتافيزيقية، حيث تميزت باستدلالاتها العقلية المجردة البعيدة تماما عن الحياة الإنسانية العادية، فكانت مستعدة دائما لتقديم إجابات عن مسائل، حتى لو كانت إجاباتها غير صحيحة، فلن تسهم بأي صورة من الصور فى إثراء معرفتنا بحياتنا، بينما كانت لا مبالية بالمسائل الحيوية مثل طبيعة الإنسان وهدف حياته ومصيره ([7]).
إلا أن هايدجر يؤكد على أنه لم تحدث قطيعة مطلقة بين فكر الحداثة وفكر العصور الوسطى، بل كان ثمة تعالق بينهما، فإن كانت الحداثة حاولت نزع الطابع اللاهوتي عن تعريف الإنسان، فإنه يحق القول، من هذه الجهة ذاتها، أنها حافظت على مبدأ “التعالي” اللاهوتي، وإن عوضت السعي إلى الجنة بالسعي إلى تحقيق السعادة الدنيوية أو غيرها. وقصاراها أنها استعاضت عن السعادة الدنيوية بالدينية، وعن الرباط الاجتماعي بالأخوة الدينية، فكانت بذلك ضربا من علمنة المسيحية شكلا والاحتفاظ بها جوهراً؛ مثلما استعاضت بالكائن “المنتج” عن الكائن “المخلوق”، فأحلت بذلك الإنسان الحديث محل الإله وأنزلته منزلته ([8]).
(1) عاطف أحمد (محرراً): النزعة الإنسانية فى الفكر العربي، دراسات فى النزعة الإنسانية فى الفكر العربي الوسيط (القاهرة: مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، 1999) ص: 11.
(2) عبد الرازق الداوي: موت الإنسان فى الخطاب الفلسفي المعاصر، ط1 (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1992) ص: 191.
(3) نفس المرجع، ص: 43.
(3) محمد الشيخ وياسر الطائري: مقاربات فى الحداثة وما بعد الحداثة، حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، ط1 (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1996) ص: 12.
(4) عاطف أحمد: النزعة الإنسانية فى الفكر العربي، مرجع سابق، ص: 12 – 13.
(5) عبد الرحمن بدوي: الإنسانية والوجودية فى الفكر العربي (بيروت: دار القلم، 1982) ص: 15 – 16.
(6) عاطف أحمد: النزعة الإنسانية فى الفكر العربي، مرجع سابق، ص: 11-12.
(7) محمد الشيخ: نقد الحداثة فى فكر هايدجر، ط1 (بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008) ص: 381-382.