لاحظ القارئ اعتماد الناشرين منهج التسلسل الزمني في توزيع أعمال دوستويفسكي الأدبية على امتداد المجلدات الكاملة. فالمجلد الأول يضم باكورة النتاج الروائي لدوستويفسكي، وفي طليعته الرواية القصيرة الفقراء (1846) التي اقترن صدورها بالنجاح السريع الذي أحرزه المؤلف الشاب، وجاء بمثابة مؤشر على اهتمامه الباكر بالكتابة الأدبية والروائية. وفي العام نفسه صدرت رواية المثل (أو الظل) لتطرح إحدى المسائل التي يتناولها المؤلف في رواياته الكبرى (الجريمة والعقاب، الأخوة كارامازوف)، ونعني بها مسألة الصراع الداخلي بين الخير والشر. ولقد جرت مراعاة مبدأ الترتيب التسلسلي الزمني في سائر مجلدات المجموعة الكاملة.
ولسنا بصدد تقديم نبذة عن حياة دوستويفسكي، أو تناول أعماله الأدبية بالدراسة في العمق. ولا تهدف هذه المقدمة إلى تقسيم مراحل حياته العملية والأدبية، علماً بوجود الرابط الوثيق بين التجارب والمعاناة والهواجس والمرض الوراثي من جهة وبين الأفكار والمثل والمعضلات والمعتقدات التي تناولها دوستويفسكي في رواياته وأضافها على شخصياته الروائية من جهة أخرى. بل نكتفي بتنبيه القارئ إلى فكرة تستحوذ على دوستويفسكي وتتغلغل في النسيج النفسي والروحي لشخصياته الروائية، وهي اعتقاده الراسخ بحاجة الإنسان إلى الندم والتوبة والتكفير، وقناعته بأن الألم والعذاب والمعاناة تؤلف سبيل الخلاص. مما حدا بالنقاد والباحثين إلى اعتبار تلك الفكرة بمثابة الهاجس المسيطر على كتابات دوستويفسكي وشخصياته الروائية، فأرسى بالتالي دعائم الفهم الديني لرواياته.
وثمة ناحية تسترعي انتباه القارئ في رواية الجريمة والعقاب، مثلاً، حيث تتجلى براعة الروائي في تصدي الحياة الداخلية للمجرم، وفي التركيز على إبراز الجوانب السيكولوجية للجريمة، وعلى التناقضات التي تعصف بالذات الإنسانية وتشحذ الوعي المتنامي بحدوث شرخ أو انفصام يؤججه الصراع النفسي داخل الشخص فيتجلى على شاكلة ازدواج في الشخصية. وقد أدت هذه الناحية إلى تبلور المنظور النفسي في فهم أعمال دوستويفسكي الأدبية، وإلى وضع الروائي في مصاف علماء النفس البشرية العظام.
ولا ينتمي دوستويفسكي إلى مناخ القرن عشر فحسب. إنه أحد معاصرينا من خلال أعماله الأدبية التي تطالعنا بمعزل عن أبعادها الزمنية والمكانية. ففي مطلع شبابه ارتبط مع مجموعة من الثائرين السياسيين وأصحاب الرؤى والتطلعات الطوباوية. وحين اكتشفت السلطات القيصرية أمر هذه “الجماعة التآمرية”، تعرض دوستويفسكي للمحاكمة وصدر الحكم بأعدامه، ثم صدر العفو القيصري بترحيله إلى سيبيريا، حث أمضى خمس سنوات في الأشغال الشاقة، ولم يأت العفو النهائي إلا عام 1859. وفي أواخر أيام حياته يبدو أن المد التمردي قد انحسر في نفسه بعض الشيء ليفسح المجال أمام تراجع صوب النزعة المحافظة. وللقارئ أن يحسم هذه المسألة من خلال مطالعته هذه الأعمال الأدبية الرائعة. لكن المنحى التمردي يظل طابعاً مميزاً للشخصيات الروائية، ولا مناص من اعتباره في فهم أبعاده.
ومما يجدر بقارئ دوستويفسكي تذكره على الدوام هو أن هذا الروائي العظيم سبر أعماق النفس البشرية وأفلح في كشف التناقضات التي تعصف بنفوس البشر وتستحوذ على أرواحهم وشخصياتهم. فقد سبق نيتشه إلى القول أن دوستويفسكي هو “عالم النفس الأوحد الذي تعلمت منه شيئاً”. وجاء الروائي النمساوي ستيفان تسفايغ ليؤكد “إن دوستويفسكي هو أول إنسان أعطانا فكرة عن الناس الذين هم نحن…” وفي إحدى رسائله كتب فيودور دوستويفسكي يقول، في غمرة شعور بالاعتزاز وإحساس بالذنب واتهام الذات: “لقد تجاوزت الحدود في كل شيء، في كل شيء”!
وبشئ من مشاعر التجاوز الروحي والنفسي المطمئن نزف هذه الأعمال الأدبية الكاملة إلى القارئ العربي في حلة طباعية جديدة. ونرى أن صدورها، برغم الظروف الصعبة، قد جاء في الوقت المناسب واللحظة الحاسمة.