مفهوم الأيديولوجيا عند غرامشي – د. محمد عجلان
لعب أنطونيو جرامشي Antonio Gramsci (1891 – 1937) دوراً هاماً في الخروج من قوقعة الماركسية التقليدية والحتمية الاقتصادية، فرغم اعترافه بأهمية البناءات القائمة، وخاصة الاقتصادية، إلا أنه ركز على أهمية النظام الفكري، ودور المثقفين فى إحداث الأيديولوجية الثورية. يؤمن جرامشى بأن الأفكار تبدأ بالمثقفين ثم تنتقل إلى الجماهير، فلا تستطيع الجماهير فى نظره، تحقيق الوعي دون مساعدة النخبة المثقفة، إلا أن الجماهير هى القادرة على تحويل هذه الأفكار إلى أفعال ([1]).
اهتم جرامشي بالمجتمع المدني ([2]) ومؤسساته وبالدور الذى تؤديه هذه فى إكساب الوعي بالوحدة لدى طبقات المجتمع. ولكن أدرك أن بإمكان الطبقة المسيطرة اقتصادياً وسياسياً الأخذ بأشكال المجتمع المدنى دون المضمون بقصد تعزيز شرعيتها، إذ تعمل هذه الطبقة على إقامة الاتحادات والأحزاب والنقابات والجمعيات، مع حرصها على أن تكون هذه المؤسسات تحت سيطرتها، ومتبنية رؤيتها للعالم.
إلا أن هذه السيطرة تبدأ بالانهيار مع وعي الطبقات الأخرى بمصالحها وبناء مؤسسات مستقلة خاصة بها، فيجمع هنا بين ضرورة الوعي والتنظيم. وتعمل هذه المجموعات بقيادة مثقفيها العضويين ([3]) على بلورة وتطوير هيمنتها المضادة. لا يقتصر هذا التحول الثوري على انتقال أجهزة الدولة لهذه الطبقة، وإنما يمتد إلى قوى الإنتاج وعلاقاته، أو قاعدة نمط الإنتاج ذاتها. بهذا نرى أن جرامشي يركز على التأثير المتبادل بين مكونات المستوى الفوقي والتحتي، وهو نمط فكري يتجاوز موقف الماركسيين الذين حصروا التحليل فى أثر المستوى التحتي على البناء الاجتماعي ([4]).
(2) إبراهيم عثمان: علم الاجتماع فى القرن العشرين، بحث فى كتاب حصاد القرن، المنجزات العلمية والإنسانية فى القرن العشرين، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2007) ص: 382.
(3) المجتمع المدني Civil Society لدى جرامشي هو مجموعة من البنى الفوقية مثل النقابات، الأحزاب، الصحافة، المدارس، الأدب، والكنيسة، بل هو يرى فى الفاتيكان أكبر منظمة خاصة فى العالم، ويفصل مهماته عن وظائف الدولة، أو بعبارة أخرى فإنه يضعه فى مقابل المجتمع السياسى. ولم يكن اهتمام جرامشي بمفهوم المجتمع المدني هدفا فى حد ذاته، بل كان مندرجاً في إطار إشكالية أعم وأشمل، وهى البحث عن آلية لتحقيق الثورة الاشتراكية في دولة غربية رأسمالية هي إيطاليا، في النصف الأول من القرن العشرين. لذلك سيحاول الاسترشاد بالثورة الروسية حديثة العهد آنئذ، حيث رأى أن سبب انتصار الثورة الروسية هو قوة المجتمع السياسى وضعف المجتمع المدني، وبالتالي فإن الحرب كانت على جبهة واحدة، لم يكن المجتمع المدني طرفا فيها. إلا أن الأمر يختلف فى دول أوربا حيث التداخل بين الدولة والمجتمع المدني، وبالتالي فإن آليات الثورة ينبغي أن تأخذ فى الاعتبار الوضع المختلف فى أوربا، مما يستدعي الهيمنة الأيديولوجية على مكونات المجتمع المدني بواسطة المثقف العضوي. انظر في ذلك:
– الحبيب الجنحاني: المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 2006) ص: 24.
– أمينة رشيد: جرامشي من الهيمنة إلى الهيمنة الأخرى، بحث فى كتاب: جرامشي وقضايا المجتمع المدني، ط1 (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 1991) ص: 195 – 196.
(1) استخدم جرامشي كلمة “مثقف” بمعنى واسع جداً، حيث اعتبر أن كل الناس مثقفون، إلا أن وظيفة المفكر أو المثقف في المجتمع لا يقوم بها كل الناس. وقسم المثقف إلى: مثقف تقليدي Traditional Intellectual يضم المعلمين ورجال الدين والإداريين، وهم الذين يقومون بأداء نفس العمل من جيل إلى جيل. والمثقف العضوي Organic Intellectual ويرى جرامشي أنه مرتبط مباشرة بالطبقات أو المشروعات التي تستخدم المثقفين فى تنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة، والمزيد من الرقابة. انظر فى ذلك:
– Antonio Gramci: Selections from the Prison Notebooks, edited and translated by Quintin Hoare and Geoffrey Nowell Smith (New York: International Publishers, 1992) P: 4 – 9.
– إدوارد سعيد: المثقف والسلطة، ترجمة محمد عناني (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2006) ص: 32 – 34.
(2) إبراهيم عثمان: علم الاجتماع فى القرن العشرين، مرجع سابق، ص: 383.