قد يتساءل المتسائلون : لم هذا الاهتمام الكلي بعمرو بن بحر الجاحظ؟ وللإجابة عن هذا التساؤل لا بد من الوقوف عند الجاحظ بدءاً من عصره والمؤهلات الحضارية التي كانت تملأ فضاء الجغرافيات العربية الإسلامية والوقوف عند حياته الشخصية وتركيبه النفسي والعقلي ودراسة آثاره التي توجت الزمان منذ القرن الثاني الهجري مع استمرار تأثيرها الأدبي والفكري والعلمي حتى يومنا هذا .. وما زال الباحثون من عرب وإسلاميين ومستشرقين يعكفون على كل ما خطه يراعه.
فقد ترك لنا ثلاثمائة وخمسين كتاباً ورسالة وكراساً شملت ثقافة عصره وكان في كتاباته يمتح من واقعه الثقافي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي ويضعها تحت مجهر العقل ليغدو في منتهى الأصالة والنقاء. كتب في موضوعات شتى بدءاً من نظم القرآن وإثبات النبوة والرد على الفرق الدينية والعنصرية التي برزت في القرنين الثاني والثالث الهجري كما كتب في حقول أخرى فكتب عن الحيوان والزرع والشجر والأدب والأخلاق والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ والجغرافيا والظواهر الجوية والطبيعية والمعادن والأصباغ وعلم النفس وحيل اللصوص واختبار الخلفاء، وقد سئل أبو العيناء ذات مرة : أي شيء كان يحسن الجاحظ الكتابة فيه؟ فقال : ليت شعري أي شيء كان الجاحظ لا يحسن الكتابة فيه .. وأورد المسعودي المناهض له في أكثر من حقل سياسي وديني في كتابه (مروج الذهب ومعادن الجوهر): لا يعلم أحد من الرواة والعلم أكثر كتباً من الجاحظ. من كتبه: البيان والتبيين، والبخلاء، والمحاسن والأضداد، وتفضيل النطق على الصمت، وفصل ما بين العداوة والحسد، وطبقات المغنين، والمعاد والمعاش، وكتمان السر وحفظ اللسان، ورسالة في الجد والهزل، والنساء والحجاب .. فقال في عدم تغليظ الحجاب على النساء: (لم يزل للملوك والأشراف إماء تختلفن في الحوائج ويدخلن في الدواوين ونساء يجلسن إلى الناس ويبرزن على أحسن ما كن وأشد ما يتزين به فما أنكر ذلك منكر ولا عابه عائب .. والدليل على أن النظر إلى المرأة ليس بحرام أن المرأة المغنية تبرز للرجال فلا تحتشم من ذلك، فلو كان حراماً وهي شابة لم لا يحل إذا كبرت؟ ولكنه أمر أفرط فيه المعتدون حد الغيرة إلى سوء الخلق وضيق الفطن فصار عندهم كالحق الواجب ) ذلكم هو الجاحظ الذي قال فيه الزبيدي الأندلسي ( رضيت بكتب الجاحظ في الجنة بدلاً من نعيمها ) ولعله قال ذلك لأنه كان دائرة معارف عصره إضافة إلى ما امتاز به من السهولة والعمق وكان إذا خشي ملل القارئ انتقل به من جد إلى هزل ومن حكمة بليغة إلى طرفة ظريفة ولهذا وصفه ثابت بن قره بأنه جمع بين الفطنة والمعرفة والرأي والأدب والنثر والنظم .
وفي الحقيقة كان الجاحظ أكثر حظاً من غيره إذ استطاع أن ينال الحظوة المرغوبة في كل مكان حتى قال عنه أبو الحسن بن داوود: (فخر البصرة بأربعة كتب: كتابا البيان والتبيين والحيوان للجاحظ وكتاب سيبويه وكتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي) كما اعتبر الباحثون والنقاد أن كتاب البيان والتبيين أحد أربعة كتب لا بد للأديب من الاعتماد عليها كي يشتد عوده وترسخ أقدامه في دنيا الأدب والكتب الثلاثة الأخرى على ما أذكر هي (أدب الكاتب) لابن قتيبة و(الأمالي) لأبي علي القالي و(المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير.
أتقن الجاحظ فنون زمنه وعلومه وهو لم يزل شاباً واتسعت آفاقه لاهتمامه بالمسائل العقائدية التي كانت سائدة في عصره وانخرط في صفوف المعتزلة وغدا صاحب فرقة من فرق المعتزلة سميت (الجاحظية)، وكانت الحكمة ضالته والنقد والتمحيص ميزانه على ضوء العقل النقدي مع التركيز على أهمية التجربة الحية والبرهان الموضوعي وضرورة الشك المنهجي للوصول إلى الحقيقة ولعل تواصله الدائم مع الوراقين والمكتبات التي كان يستأجرها ليلاً ليعب من مخزونها وتواصله مع الأعراب في البادية ليأخذ عنهم اللغة العربية بكل نقائها كان السبب الرئيسي في عدم فوات شيء عليه من علوم ذلك الزمان.
ذلكم هو عمرو بن بحر الجاحظ. وأطلق عليه الجاحظ لجحوظ عينيه وهو من مواليد البصرة عام 160 للهجرة لأبوين فقيرين وتوفي عام 255 للهجرة. ذلكم هو الجاحظ الذي حظي باهتمام كبير حتى يومنا هذا.