ماذا تعرف عن مفهوم الحداثة (3) – د. محمد عجلان
ويرى البعض أن الحداثة ليست مجرد وجود تاريخي أو جغرافي، أو شيء يوفر الستارة الخلفية لتاريخ الأفكار، ولكنها تأسيس للعلاقات الاجتماعية من خلال معنيين، فمن ناحية هي تشير إلى المؤسسات والنماذج التي أقامها رجالها الاجتماعيون، ومن ناحية أخرى هي تمثل سلطة مترابطة توضح كيف بُنيت هذه المؤسسات والنماذج ([1]).
وفى إطار التناول النقدي للحداثة، يرى عبد الوهاب المسيري (1938 – 2008) أنه رغم تعدد تعريفات الحداثة، ما بين من يعتبرها دفاعاً عن عظمة الإنسان ومحورية دور العقل، ومن يعتبرها استنارة، أو من يؤكد على كونها استخدام العلم والتكنولوجيا (كما لو كانت هذا التكنولوجيا بدون أيديولوجية) رغم هذا التعدد، فإنه يرى أن كل تعريف يحمل شحنة أيديولوجية، مطالبا بضرورة التمييز بين الحداثة كـ “مشروع” والحداثة كـ “تطبيق”، فالتعريف السائد هو تعريف المشروع وهذه هي المشكلة الكبرى، مشيرا إلى أن تعريف الحداثة وفقا لما هو قائم يحيل إلى اعتبارها تفكيكاً، أي رد الإنسان إلى ما هو دون الإنسان، أي رد الإنسان إلى الطبيعة والمادة ([2]).
ويُرْجع المسيري الخلط والارتباك فى تعريف الحداثة إلى عدة أسباب:
1- ميل الكثيرين إلى النظر للحداثة باعتبارها نموذجاً ثابتاً، أو حتى نظرية جامدة أو متتالية محددة مقدماتها وحلقاتها، ونتائجها معروفة مسبقاً وتتحقق بنفس الشكل تقريبا.
2- الخلط بين الحداثة كمخطط ومشروع وأمل وبين الحداثة كظاهرة تحققت فى الواقع بالفعل، حيث يعتبرون أن آمال بعض المفكرين بخصوص المشروع الحداثي، هي خير تعريف للظاهرة، دون أن يدرسوا المتتالية المتحققة، والتي تكشفت تدريجيا عبر الأربعة قرون الماضية، ثم ازدادت تبلوراً في العقود الأخيرة مع أزمة الرأسمالية في الثلاثينيات من القرن العشرين وظهور النازية Nazism، وأزمة النظام الاشتراكي وسقوطه، وأزمة المعنى التي أفرزت ثورة الشباب، وغيرها من الظواهر.
3- تحليل ظاهرة الحداثة من خلال مستوياتها الاقتصادية والسياسية والتربوية، مع إهمال الجوانب الفكرية النهائية والكلية، أي رؤية الإنسان وهويته ومركزه فى الكون، والهدف من وجوده، وعلاقته بالطبيعة وما وراءها. وهذا يعني أن هذا الخطاب يهمل البنى العميقة لوعي الإنسان وانعكاس كثير من جوانب الحداثة على مركزه فى الكون، والهدف من وجوده وعلى إدراكه لنفسه ولمعنى حياته. ولهذا يتم إهمال بعض الجوانب النهائية والكلية للمشروع التحديثي، والتناقضات المعرفية الكامنة فيه كنموذج معرفي وكرؤية ([3]).
(1) عدنان على رضا النحوي: تقويم نظرية الحداثة، ط1 (السعودية: دار النحوي للنشر والتوزيع، 1992) ص: 29.
(2) عبد الوهاب المسيري: الحداثة وما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص: 12.
(3) عبد الوهاب المسيري: التحديث والحداثة، مرجع سابق، ص: 62 – 64.