يتألّف مصطلح «التكنوقراطية » اليونانيُّ الأصل من الجذر techno ومعناه الفنّ، أو فنُّ الصنع، ومن الكلمة الملحقة cracy من أصل الفعل اليوناني kratein ومعناه الحكم أو ممارسة الحكم، فيكون مجمل معنى المصطلح حكم الفنّيين، بمعنى الأخصّائيين في الهندسة والتخطيط والاقتصاد وما إلى ذلك، تبايناً مع رجال السياسية.
وعلى وجه التخصيص، يشير المصطلح إلى مذهب معين من المذاهب الاقتصادية ـ الاجتماعية يقول إنَّ النظام الصالح للعصر الذي انتشرت فيه التقنية، هو نظام الحكم التكنوقراطي الذي يجب أن يقوم عليه فنّيون من علماء ومهندسين، واقتصاديين وصناعيين، وما شابه ذلك من ذوي المعرفة والخبرة والاختصاص.
أوّل ظهور تلك النظرية أبحاثاً منهجية كان بين سنتي 1931 و1933 إذ قامت آنئذ، في الولايات المتحدة الأمريكية، ولاسيما في نيويورك، «الحركة التكنوقراطيّة » تعرض على الجمهور الأمريكي (وكان يعاني من الأزمة الأمريكية والعالمية الكبرى، أزمة الكساد سنة 1929 وما بعدها) بديلاً من المفهومات الاقتصادية العتيقة التي أدّت إلى الأزمات لأنها لم تعد تناسب ثورة التقنية.
وكان لولب هذه الحركة، العالم الاقتصادي الأمريكي «ثورنستاين فيلبن»، الذي استلهمت الحركة كتاباته بين الحربين العالميتين لتنشر رسالة التكنوقراطية، بيد أن المحرك الفعلي لهذا المذهب الجديد كان «هاوارد سكوت» وكان ذا شخصية جذابة وأسلوب مقنع، فجمع حوله فريقاً من الباحثين عكفوا على تفنيد ما في الأسس الاقتصادية السائدة من قصور وعجز، كنظرية الندرة، ندرة المنتجات الاقتصادية التي ترتفع أثمانها كلما قلت كميتها وتنخفض كلما كثرت الكمية. وكان فريق سكوت يبشر بقرب سقوط هذا النظام المستند إلى اقتصاد السوق القائم على السعر، وبقرب قيام نظام تكنوقراطي بدلاً منه. على أنه مع ترحيب أكثرية المفكرين بهذه الأفكار الجديدة، وظهور عدة فروع لهذه الحركة، وتنظيمات بنيت على أفكارها التكنوقراطية، ونشاطها المثير في خريف سنة 1932، فإنه لم تمض أشهر قليلة حتى عاجلها الكسوف.
غالباً ما يعزى إلى الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي، كلود هنري دوروفروا، المعروف بـ«سان سيمون » (1760-1825) الذي سبق الحركة الأمريكية بأكثر من قرن كامل، إيجاد مفهوم تكنوقراطية السلطة والمجتمع، ويستنتج ذلك من الوصف الذي يطلقه على الصناعيين في الإنتاج مشاركة منظّمة هرمّية المراتب، يحكمها معيار عالمي، هو معيار الاختصاص الفني، وهو الذي يجب أن يكون الشرط الأول لتولي الحكم، حكم العلماء ورؤساء الصناعةوالفنيين. ودَّ سان سيمون لو يقوم مثل هذا الحكم فيضع نهاية للاضطرابات الاجتماعية التي تكاثرت في عصره بل هو يتنبأ بأن حكم التقنية آت لا ريب. على أنّ إنسان الصناعة، في نظر سان سيمون، ليس هو المشتغل عن ذكاء ومعرفة بالصناعة وحسب، بل هو أيضاً الفني والمتعهد، والعامل والمهندس، والتاجر والمزارع، فهو يعني بإنسان الصناعة الإنسان المجد الذي يعكف على الإنتاج وتوفير الخدمات عن معرفة فنية وخبرة وتمكن. وكان هذا المفهوم للمعرفة الفنية التي تُكتسب عن طريق الصناعة مفهوماً جديداً آنئذ، وقد سماه سان سيمون مفهوماً تحريرياً، يحرر الإنسان من تسلط أخيه الإنسان على مقدراته واستغلاله، ويقلص الحكم إلى مجرد الإدارة، لأن المعرفة الفنية معرفة محايدة وهي معرفة نظرية لتفقه الوسائل التي يجب استخدامها لتحقيق غرض معين يقع ضمن الحاجات الاجتماعية، أو يستجيب لدواع حضارية. ومن المستحسن أن تستثمر المعرفة الفنية لتعقيل النشاط الإنساني وتحسين مردوده، لكنها يجب ألا تملي التوجيهات على الأعمال الجماعية أو الفردية ولا تحدد لها أهدافاً معينة، فبذلك تصبح شكلاً جديداً آخر لممارسة السلطة.
لتلافي مثل هذه المحاذير كان «سكوت» ينادي بأن يكون المفهوم الجديد لسلطة «الفني» متدرجاً، فتصبح سلطته أداة للصعود الاجتماعي، ويمكنه آنئذ مزاحمة مفهوم المتعهد الرأسمالي، من داخل المؤسسات التي يلطف من سيطرتها ويعقل ممارساتها ويرشد آليتها الداخلية التي تجنح إلى تبني طرق الإنتاج الرأسمالي لتصير متوافقة مع التطلعات الماركسية لتحويل الهدف من مجرد الربح إلى المردود الاجتماعي الأعم ثمرة ونفعاً.
وأكمل الفيلسوف الاقتصادي «بورنهام» تحليل «سكوت» ومن قبله «فيلبن» فأنضج مفهوم «سلطة الإدارة» وما تعنيه قدرة الإدارة الفنية الصالحة ذات الكفاءة على تحقيقه من انتقال تاريخي من المجتمع الراهن إلى نوع من المجتمع الجديد يقوم على نمط أحدث من هيمنة «التكنوقراطية»، ويجمع بين مصير المجتمعات الرأسماليةالمتطورة في الغرب والنمط الجديد للشمولية البيروقراطية، أو للقومية الجرمانية، بمعنى أن الحكم التكنوقراطي قادر على جمع مزايا الرأسمالية، وأهداف الاشتراكية، والاشتراكية الوطنية في بوتقة جديدة، ذلك أن نظام الملكية الرأسمالية يشهد تطورات تترافق مع بروز المجتمع التعاوني، ومع بروز الشركات الكبرى، ومع التنامي المكثف لتدخل الدولة، والتخطيط الإداري والاقتصادي، وكل ذلك لا يجد انعكاساً له في نظام التمثيل الديمقراطي الراهن. ويستخلص «بورنهام» من هذه الظواهر أن المجتمعات الغربية تتمسك بحقوق رسمية ظاهرة فقط كحق الملكية وحق الاشتراك في تأسيس السلطة، في حين يشير الواقع إلى أن السيطرة الفعلية على مسيرة أي مشروع كبير من المشروعات الحديثة، والتوجيهات المنبثقة عن الشمولية الوطنية، هي في مرحلة الانتقال إلى أيدي التكنوقراطيين.
ومع ذلك لا يتنكر «بورنهام» للمفهوم الكلاسيكي للسلطة من حيث هي ممارسة السيطرة من قبل طبقة اجتماعية جديدة تعمل باسم النجاعة الفنية والكفاية المهنية.
ينحو «غالبريث» المؤلف الاقتصادي الأمريكي الذائع الصيت منحى آخر في بحث «التكنوقراطية» فيتحدث عن التطور البنيوي للسلطة الذي يترافق مع ظهور منطق تكنوقراطي لعملية اتخاذ القرار. ويستشهد على ذلك بنماذج من الشركات الأمريكية الكبرى، فيبيّن كيف تتوزع السلطة وتتناثر في شبكة من سيل المعلومات، يحتكر كل فريق في الواقع جزءاً منها فيجعل بذلك من الضروري المحتم اشتراكه في عملية اتخاذ القرار. فهذه البنى التقنية والصلات الوثيقة التي تنسجها مع الدولة لا يمكن بعد اليوم أن تُفهم ضمن المعطيات التقليدية للاقتصاد السياسي، فهي تبرز أنماطاً جديدة من التضافر والولاء والحوافز والتسلسل في المراتب، لا تعرب عنها مفهومات الطبقات الاجتماعية التقليدية أو اقتصاديات السوق أو بيروقراطية السلطة في تكوينها غير الحركي.
ويمضي العالم الأمريكي «بيل» Bell في هذا الضرب من التحليل للمنطق التكنوقراطي، فيدمجه في الفرضية العامة القائلة: إنّ المجتمع هو في مرحلة انتقال تاريخية إلى المجتمع ما بعد الصناعي، ويظهر هذا الانتقال جلياً في خمسة مستويات:
أ ـ انتقال من اقتصاد صناعي، منتج للبضائع، إلى اقتصاد خدمات.
ب ـ تقسيم جديد للعمل يجعل من طبقة المهنيين والتقنيين محور حركة التنمية.
جـ ـ ممارسة جديدة للمعرفة النظرية تصبح، للمرة الأولى، سلطة مباشرة لتطوير الواقع الاجتماعي.
د ـ تطوير التخطيط على أساس التنبؤ لكل أقسام التنظيم الاقتصادي على اختلافها، ولكل مستويات الإدارة، فتصبح العملية قائمة ذاتياً تحمل اسم: تخطيط التنمية التقنية.
هـ ـ ظهور «تقنية ذهنية» لاتخاذ القرار تحل محل «أحكام الحدس» وتستند إلى تقاليد ثقافية أو إلى تطبيق لمبادئ أخلاقية أو قانونية عالمية.
والحق أن كل هذه التيارات الموضوعية تلتقي عند ضرورة إدخال نمط جديد من التنظيم الاجتماعي يحل محل الأشكال التقليدية والحديثة للإنتاج وتكرار الإنتاج وفق ما جرت عليه عادات المجتمع.
ويسمي «فرايتاغ» هذا النمط الجديد باسم «اتخاذ القرار العملياتي» تعبيراً عن التكامل بين اختيار طريق التقنية أيديولوجية تسوغ ازدياداً لا حدود له في طاقة الأدوات المستخدمة، واللجوء إلى الفن والتقنية طريقاً متدرجاً لمنطق عملي لاتخاذ القرار والتكيف مع المعوقات بعيداً عن المنطق المؤسساتي ـ البيروقراطي في ممارسة السلطة، إذ يتخذ القرار مسبقاً عن طريق استنتاج المبادئ التوجيهية. والواقع أنه كلما كانت القطاعات المختلفة للعمل الاجتماعي مشبعة بالنمو التقني المستمر، أدى الحرص على زيادة الإنتاج إلى حلول السلطة التكنوقراطية محل السلطة السياسية المؤسساتية تدريجياً، ومن هذا المنظور فإن بروز فلسفة تكنوقراطية الإنتاج وتكرار الإنتاج عادة تترسخ اجتماعياً قد يعني اعتياداً آلياً يؤخر عن اللحاق بالمستجد والمستحدث، فنكون أمام ضرورات تحديث دائم للمعرفة ومواكبة مستمرة للتقدم التقني وتكييف لمراحل الوعي الاجتماعي مع سرعة الزمن وتواتر التطورات في المعارف والأداء. لهذا تكاثرت برامج البحث لاستنباط كل جديد، ومتابعة معايير العمليات الناجحة، وغدا مركز العلم راجحاً في البحث. ولكن لم تعد علوم الطبيعة هي التي تشغل مكان الصدارة الفعلية بل صارالدور الأكبر في هذا الجو العملياتي للعلوم الإنسانية والاجتماعية التي تتحول إلى تقنيات إدارة أعمال وإنتاج وعلاقات اجتماعية وفق ما تمليه نماذج المعلوماتية.
وبعد فإن التكنوقراطيين، ما هم إلا فنيون يملكون من الكفاية في اختصاصاتهم ما لا يملكه غيرهم وقد يعزيهم ذلك بإمكان فرض سلطتهم على أرباب السياسة التقليديين وعلى أصحاب الشركات الخاصة. ومع تقدير أنهم لا يحكمون إلا بما تمليه عليهم معلوماتهم الفنية المحايدة، فإن الخشية أن تصير نظرتهم إلى المجتمع نظرة آلية لا روح فيها، وتصطبغ حلولهم لمشكلات هذا المجتمع حلولاً تنظيمية بحتة، لا تتصل بالمشكلات ذات الطبيعية السياسية وهي في صميم حياة المجتمع.
ويؤخذ على التكنوقراطيين أنهم قد يصبحون مع العادة مجرد موظفين تحركهم الأرقام، ولكن يفتقرون إلى الواقعية، وينساقون وراء المعطيات الرياضية، فيتحاشون المسؤولية، وبذلك ينقلبون من رواد للسلطة إلى مجرد مأمورين للسلطة القائمة. لهذا كثر ما سيقت صفة «تكنوقراط » في معرض الكتابة أو الكلام في سياق اللمز.
ومع ذلك فسواء سمي التكنوقراطيون مديري أعمال أم مشرفين فنيين، فإنهم في الواقع لا يمكن أن يتجردوا من الصفة الاجتماعية والإنسانية. إنهم لا شك يمارسون اختصاصهم في إطار عملي محدد لكنهم مع ذلك، سواء شعروا بذلك جلياً أم لم يشعروا، وسواء رضوا أم أبوا، فهم مسوقون بحكم انتسابهم للمجتمع أن يأخذوا بالحسبان مجموعة من الخيارات السياسية.
ولعل أبا التكنوقراطية، سان سيمون، كان يرمز إلى هذه الخدمة العامة، لصالح المجتمع، عندما جعل الفن والتقنية في خدمة المجتمع، وعنون كتابه الكثيف على النحو الآتي: «الصناعة أو المناقشات السياسية والأخلاقية والفلسفية، لصالح كل الناس العاكفين على الأعمال النافعة المستقلة»، ونشره سنة 1817، كما نشر كتابه «دستور الصناعيين» سنة 1823، وكان من أثر مدرسته أن تولى أتباع له الوظائف الكبرى في المصارف وشركات السكك الحديدية والبحرية، فحبذوا التبادل الحرّ ونظموا شؤون الاعتمادات المصرفية، وشجعوا التنمية في المشروعات الكبرى، وكان هذا بدء الترجمة العملية لمذهب التكنوقراطية.
المصدر: الموسوعة العربية