ما أن رحل ريتشارد في سفينته من ميناء عكا عائداً إلي بلاده، حتي تنفس المسلمين الصعداء. فقد كان ريتشارد يمثل أكبر تهديد للمكاسب التي حققها المسلمون في موقعة حطين. و لولا المتاعب التي لاقاها ريتشارد من كونراد الفرنسي، و محاولات أخيه جون عزله و الاستيلاء علي عرش انجلترا ، لكان بقاء ريتشارد في فلسطين قد أمتد و زاد خطره علي الوجود الإسلامي في بيت المقدس.
و لكن ريتشارد ذهب، و ذهبت معه آخر محاولات الصليبيين الرجوع إلي بيت المقدس. و علي الرغم أنه كان ينوي الرجوع إلي فلسطين لإتمام ما بدأه و الاستيلاء علي بيت المقدس، إلا أن القدر لم يمهله. و جاءت نهايته غريبة لا تتفق مع حياته التي امتلأت بالبطولات و الانتصارات و شهرته الأسطورية في الأرض المقدسة التي بثت في قلوب الكثيرين الرعب و الفزع. و أغرب ما يقال عن نهاية ريتشارد هي أن صلاح الدين قد تنبأ له بها.
فكيف كانت نهاية ريتشارد قلب الأسد ملك الإنجليز؟
بعد أن تم لريتشارد توقيع معاهدة الصلح مع صلاح الدين عام 1192 م، و التي نصت علي احتفاظ الصليبيين بالمدن الساحلية بين صور و يافا بما فيها عكا و حيفا و قيسارية، كما نصت علي حرية المسيحيين في الحج إلي بيت المقدس، و كذلك تخريب عسقلان التي تقع علي الطريق إلي مصر، أقلع ريتشارد من فلسطين عائداً إلي بلاده. و في الطريق توقف في قبرص و استولي عليها بجيوشه و عين جي دي لويزينيان ملكاً عليها.
أما أخو ريتشارد جون في إنجلترا، فكان براهن علي عدم قدرة ريتشارد علي بلوغ شواطئ إنجلترا مع كل هذه المؤامرات المحاكة ضده في أوروبا. و كان علي حق.
رست سفن ريتشارد عند مدينة ساحلية في اليونان، و تخفي ريتشارد في زي أحد فرسان الهيكل لخداع جواسيس فيليب و الإمبراطور الروماني المنتشرين في كل مكان، و بالفعل استطاع ريتشارد عبور جبال الألب متخفيا. و لكن علي مشارف مدينة فيينا سقط في قبضة رجال الدوق النمساوي ليوبولد الذي كان يكن حقداً عميقاً لريتشارد، لأن الأخير أهانه بعد الاستيلاء علي عكا من المسلمين و ألقي جنود ريتشارد براية دوق النمسا من فوق أسوار عكا.
تلقي دوق النمسا ليوبولد جائزته من الإمبراطور الألماني وهي عبارة عن ستين ألف ليرة من الفضة مقابل تسليم ريتشارد، الذي اقتيد إلي سجنه في قلعة علي نهر الدانوب. و أُعلن أن فدية اطلاق سراح ملك الإنجليز مقدارها مائة ألف مارك فضي، وهي فدية باهظة في ذلك الوقت كانت تساوي نصف خزينة مملكة إنجلترا. و بالطبع لم يكن أخوه جون متلهفاً لدفع الفدية، فمكث ريتشارد في سجنه سنتين، حتي جمعت الفدية من كل مقاطعات إنجلترا و نورماندي و سددت للإمبراطور الألماني الذي أطلق سراح ريتشارد في الرابع من فبراير 1194م. و عاد إلي إنجلترا، و قضي علي تمردات أخبه جون و عفا عنه.
أما نهاية ريتشارد فقد جاءت بعد ذلك بخمسة أعوام، أي عام 1199م ، فقد تمردت إحدي المقاطعات الصغيرة و تحصن باروناتها في قلعة صغيرة و لكنها حصينة. إلا أن ريتشارد أصر علي الخروج بنفسه لسحق هذا التمرد و التنكيل بالمتمردين، و رفض طلبهم بالاستسلام مقابل العفو عنهم.
و أمام القلعة بدأ ريتشارد يعد لهجوم كاسح علي القلعة و أخذ يجول حول القلعة جيئاً و ذهاباً غير عابئ برماة السهام علي أسوار القلعة. فقام واحد منهم بإطلاق سهمه علي ريتشارد فأصاب ذراعه. و لكن ريتشارد لم يعبأ بجرحه و قاد هجومه الكاسح علي القلعة، فلم يلبث جرحه أن تفاقم و لم يفلح استخراج السهم في تخفيف الاحتقان، فقد تورم الذراع و أصابته الغرغرينة التي تفشت في جسده كله و أدت إلي وفاته في النهاية في 6 أبريل 1199م. و تبين بعد ذلك أن رامي السهم لم يكن إلا فتي صغير أدعي أن ريتشارد قتل أباه و أخويه، و أنه أراد أن يثأر لهمم. و بذلك قيل عن موت ريتشارد بهذه الطريقة أنه “الأسد الذي قتلته نملة”.
هكذا جاءت نهاية ريتشارد ليست في حروبه المقدسة التي تميزت معاركها بالشراسة و الملحمية، و لا في معاركه ضد غريمه فيليب أغسطس، و لا حتي في رحلاته البحرية الخطرة، و إنما من سهم أطلقه شاب صغير في معركة هينة أمام متمردين كان أصغر قواد ريتشارد قادراً علي سحق تمردهم.
و صدق قول صلاح الدين عن ريتشارد ” إنه غير صبور، و هذا حتي لا نقول أنه أحمق، بتعريض نفسه دائماً للأخطار. إنه يُظهر عدم اهتمام كامل بحياته. و أنا من جانبي، مهما يكن ملكي واسعاً، و ثرواتي هائلة، سأظل مصراً علي الحكمة و الاعتدال في التصرف، بدلاً من الكبرياء و العجلة”
المراجع:
– النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، ابن شداد، دار المنار، الطبعة الأولي 2000، القاهرة
– صلاح الدين الأيوبي، د. عبد المنعم ماجد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999
– مقاتلون في سبيل الله، صلاح الدين الأيوبي و ريتشارد قلب الأسد و الحملة الصليبية الثالثة، جيمس روستون الابن، ترجمة رضوان السيد، مكتبة العبيكان، الطبعة العربية الأولي 2002
المصدر: تاريخ مصر