خلود كونديرا واللوحات غير المكتملة .. أعترف أن معرفتي بـ “ميلان كونديرا”، مرّت عبر “يُسْر”، فقد كانت وما زالت مهووسة بهذا الرجل، هوس بالمُخْتَلِف الذي يمثله، هوس بالعميق في زمن الرداءة، هوس بالإمكان الذي يمثله بين مستحيلات السطحي الذي يحاصرنا، سواء كان اختلافًا في الأسلوب، أو في درجة العمق الذي نادرًا ما نجده رفيقَ دربٍ أدبي. وقد كان عمله “كائن لا تُحتمل خفتُه“، وفي ترجمة أخرى “خِفّة الكائن التي لا تُحتمل، وهي ترجمتها المفضلة، هو المدخل بالنسبة لي لعالمه الأدبي. فهي الرواية التي لا تفتأ تحملها كلما سافرت، وترقد بجوار سريرها على الدوام كظل.
ورغم إعجابي الشديد بالعمل، إلا أني كنت أجد في حبي له امتدادًا لحبي لها، حتى لو لم يكن ذلك حقيقيًا، إلا أن الهواجس تحاصر المتشككين مثلي على عكس ما يصنعه الواثقون دائمًا من أنفسهم. فالحل هو أن أعود لـ “كونديرا” من النافذة، حين التبس عليَّ الدخول الشرعي من بابه الواسع، ألا وهو “كائن لا تُحتمل خفتُه”. فوجدتني على غير توقعٍ ودون سابق إعداد ملقى على ناصية روايته “الخلود”، كنت بقراءتها أعيد تقييمي لنفسي قبل أن أعيد تقييم كونديرا ذاته، أضرب بمعاول الهدم على جدار موضوعيتي، آملًا أن أفهم الحقيقة، هل الرجل فعلًا على هذه الدرجة من العمق الممتع أو المتعة العميقة في كتاباته، أم أني ما زلت أسير الإعجاب الثنائي (كونديرا/ يسر).
على حسب تقييمي لجودة أي عمل أدبي، فأنا أرى أن الأكثر عمقًا بينها هو الأكثر تماسًّا مع حقيقة الحياة وجوهر البشر، ولا يعني أن تغوص عميقًا داخل كل من الحياة والنفس البشرية أن تخرج بدُرر، بل العمق أن تغوص لتخرج بالحقيقة، وربما كانت الحقيقة هي ذاتها ما علقت به أصابعك بكثيرٍ من التفاهة حول الحياة والنفس. فلا يعني العُمق، ولا يتطلب من وجهة نظري، أن تعقلن العبثي، أو تُعمِّق التافه، بل أن تعرضه كما وجدته في رحلتك نحو الأعماق، أن تعرض بكل حيادية ما تراه، لا تخف من ردود الفعل، ولا تُرهبك تطلعات المُنْتظرين على الشاطئ، بماذا جئتنا؟! لو توقفت عند هذه المسألة فلن تُقدم شيئًا سوى انعكاس رغبات المتطلعين من القراء المنتظرين لك على شاطئ الحقيقة. والتي ربما لا يريدونها، فقط يريدونك أن تعرض تطلعاتهم ورغباتهم بشكل يبدو عميقًا، لتؤكد لهم أنهم ذوو أهمية قصوى، وأن ما يسعون في دائرته ليس أكثر من مجرد تفاهات منمقة.
وهذا هو ما أجده في “كونديرا” حين يكتب، وظهر كأوضح ما يكون في روايته “الخلود”، يحفر عميقًا دون أن يَعِدَ أحدًا بكنز، ربما بعد رحلة طويلة من الحفر الذي يقوم به، والانتظار الذي يسكن نفوس قرائه، يخرج مُلْقِيًا في وجوههم بحذاء مهترئ، لا لشيء سوى أن هذا ما وجده. ربما تبدو روايته عملًا غير متكامل من حيث بناء شخصيات مسترسلة، والشخصيات ذات التسلسل التقليدي تُريح القارئ، وربما أيضًا الكاتب، فلا تُرهق الأول في المتابعة، ولا تُنهك الثاني في البناء المُخْتِلف، إلا أن كونديرا، في هذا العمل بالذات، أشبه برسّام لا يُكمل لوحاته، يبدأ في لوحة، ثم يتركها ليبدأ في ثانية وثالثة وهكذا، مما يصيب قارئه بالتيه أحيانًا. فأنت أمام شخصيات من أزمنة مختلفة، وبتركيبات نفسية وعقلية وجمالية تصل أحيانًا حدَّ التناقض، لذا تحتاج قراءته إلى صبرٍ ومحبة، فالصبر وحده لا يكفي، والمحبة أيضًا يمكن أن تلتحم بالضجر.
فها أنت أمام “غوته” يجلس على أريكة الخلود بجوار “هيمنجواي”، معلنان عبثية الفكرة، وسطحية البشر حين يتجاهلون العميق لصالح الشخصي والنميمة المُسمَّاة ثقافة. ثم انتقال مفاجئ من شخصيات كانت وما زالت ملء العقل الإنساني، إلى شخصيات تحيا وتموت على الهامش، لا أحد يعرف حتى اسمها، ولا صورتها. وإسهاب هناك حول الأيديولوجيا وكيف تتشابك صناعتها من ماركس إلى رجلٍ مهووسٍ بأجساد النساء، أو امرأة تافهةٍ تريد أن تبدو مختلفة في الوقت الذي تتورط فيه بمماثلة مليارات غيرها. وبالطبع لا يقف عند إحداها أطول من اللازم، بس أحيانًا يكون الوقوف أقل من المعتاد، يمرّ على شخصياته مرور الحياة، فليس من الضروري حياتيًا أن تُقدم الشخصية في الواقع كاملة، بس الموتُ يفاجئنا ولم نُكمل النصّ في الغالب، قلةٌ هي التي تُنهي النص قبل أن يباغتها الموت. ولما لا تكون الكتابة هكذا، ربما هذا ما انتهجه كونديرا في كتابته، شخصيات تشبه الواقع، لا شيء مخطط بشكل كامل، لأن الواقع ليس كاملًا.
وهذا ما أشرت إليه منذ قليل برحلة تنقيبه، وخروجه ربما بحذاءٍ مهترئ، الواقع لا يعد بشيء، ولو وعد فلن تكون وعوده سوى أوهام للتسكين لا علاجات للشفاء. وهذا أيضًا ربما ما أشرتُ إليه باللوحات غير المكتملة، والتي تُعرض في معرضٍ فنيٍّ ضخم على حالتها. ربما تحبط هذه اللوحاتُ القارئ أو المشاهِد، إلا أنها تُمثِّل الحقيقة دون تزييف. ولكن تكمن العبقرية حين تكون هذه اللوحات غير المتكاملة في مجموعها صورة حقيقية للحياة، صورة للقائم لا المُتَمَنَّى. دور كونديرا في رواية “الخلود” هو أن يفتح عينيك ولو عنوة كي ترى، يحاول نزع نظارة الأيديولوجيا والنظريات المُريِحة، ليتركك وجهًا لوجه مع الواقع، تقبله حينها أو ترفضه، تؤدلجه من جديد أو تثور عليه، لم يعتبر كونديرا نفسه وصيًّا عليك، فقط يتركك مع الحذاء المهترئ الذي قذفه في وجهك، وعليك أنت أن تأخذ القرار، أو ألا تتخذ أية قرارات وتدور مع الحياة بعينين مغمضتين كثورٍ مُلثّم.