تعرّف على الأسس الفلسفية للحداثة (3) – د. محمد عجلان
قامت الحداثة الغربية على ثلاثة أسس: الذاتية، أو الإيمان بقيمة الإنسان كذات حاضرة وليس مجرد جزء من كيان أوسع، والعقلانية، أي اعتبار العقل هو المعيار والمرجعية فى التعرف على العالم والحكم على الأشياء، فهو معيار القبول أو الرفض، ثم الإيمان بفكرة التقدم، بمعنى أن العالم يتحرك فى خطوات ثابتة دائما نحو تحقيق الأفضل.
جـ- التقدم:
تعني فكرة التقدم Progress أن الحضارة قد تحركت فى الماضي، وتتحرك الآن، وسوف تتحرك مستقبلا صوب اتجاه مرغوب فيه. وقد غلب على ظن الكثيرين أن النتيجة المرجوة من التقدم البشري هي الحالة التي ينعم فيها سكان كوكب الأرض بالحياة الهانئة ([1]). وبمعنى آخر، فإن عقيدة التقدم تعني أن البشرية تتقدم نحو الكمال، الذي كانت تقوم به دائما، وسوف تستمر فى ذلك. فلا يكفي أن نتصور أن الحضارة Civilization قد تقدمت فى الماضي، بل من الضروري أن نؤمن بأن الحضارة يجب أن تمضي قدما فى سبيل تقدمها ([2]).
ومن الواضح أن العالم القديم لم تكن لديه أية فكرة عن التقدم، فاليونان والرومان كانوا يعتقدون أن العصر الذهبي قد حصل فى الماضي ثم انحط الإنسان بعده، ولم يكن بوسع القرون الوسطى بالطبع أن تحمل مثل هذه الفكرة([3])، حيث كانت النظرية المسيحية التي نادى بها آباء الكنيسة، وعلى وجه الخصوص القديس أوغسطين، كانت تعتبر أن حركة التاريخ بأكملها تهدف بالأساس إلى تأمين السعادة لعدد محدود من الجنس البشري فى العالم الآخر، ولم تُسلّم بأي تطور إضافي للتاريخ البشري على الأرض ([4]).
ولم تظهر فكرة التقدم فى عصر النهضة – رغم تحقيقه لإنجازات عديدة – لأنه لم يتصور إمكان ارتفاع الإنسان ثانية إلى مستوى العصور القديمة المجيدة، إذ إن جميع أفكارها تتجه صوب الماضي. ولم يجرؤ الناس على مثل هذا الطموح الذي لا يعرف حدا إلا بعد نمو العلم فى القرن السابع عشر ([5]). إلا أن البعض يرى أنه رغم عدم بروز فكرة التقدم جلية فى عصر النهضة، فإن فرنسيس بيكون قد وضع الأسس التي قامت عليها، لكن مذهب التقدم لم يتم التعبير عنه بشكل محدد قبل بلوغ القرن السابع عشر، وظلت الفكرة حتى بدايات القرن الثامن عشر حكرا على عدد بسيط، وإن كانت قد اكتسبت أهمية وقوة خلال القرن الثامن عشر، لكنها لم تتحول إلى عقيدة شعبية قبل حلول القرن التاسع عشر بعد أن دعمتها نتائج العلم الحديث ([6]).
وتجسدت فكرة التقدم على يدي كوندورسيه Condorcet (١٧٤٣ – ١٧٩٤) في كتابه “تقدم العقل البشري” الذي يعرض فيه تفسيرا كاملا للمراحل العشر التي انتقلت البشرية عبرها، ابتداءً من الحياة البربرية إلى حافة مرحلة الكمال على الأرض. وكان التفسير المفضل عند المثقفين فى القرن الثامن عشر هو أن التقدم مرجعه إلى انتشار العقل وذيوع التنوير باطراد، مما يسّر للبشر التحكم فى بيئتهم على نحو أفضل ([7]).
ولا شك أن انبثاق نظرية التقدم خلال القرن الثامن عشر قد ارتبط بروح التفاؤل التي أوجدتها الكشوف العلمية المختلفة، وانتصار النزعة العقلانية، واتساع مجال الكفاح فى سبيل الحريات السياسية والدينية، وبتراجع فكرة القوانين الطبيعية الثابتة. فبهذه الروح المتفائلة ازداد وعي إنسان القرن الثامن عشر بذاته كذات صانعة للتاريخ، وأنه يمثل أعلى مراحل تطور التاريخ البشري.
(1) J. B. Bury: The Idea of Progress (London: Macmillan and Co, Limited, 1920) P: 2.
(2) Robert Shafer: Progress and Science. Essays in Criticism (London: Yale University Press, 1923) P: 2.
(3) جون هرمان راندال: تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة، جـ1 (بيروت: دار الثقافة، د. ت) ص: 548. وانظر فى ذلك أيضاً:
– W. R. Inge: The Idea of Progress (Oxford: Clarndon Press, 1920) P: 3.
(4) J. B. Bury: The Idea of Progress, op. cit, P: 21.
(5) جون هرمان راندال: تكوين العقل الحديث، مرجع سابق، ص: 548.
(6) Robert Shafer: Progress and Science, op. cit, P: 2.
(7) كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث، مرجع سابق، ص: 125-126.