تعرّف على الأسس الفلسفية للحداثة (2) – د. محمد عجلان
قامت الحداثة الغربية على ثلاثة أسس: الذاتية، أو الإيمان بقيمة الإنسان كذات حاضرة وليس مجرد جزء من كيان أوسع، والعقلانية، أي اعتبار العقل هو المعيار والمرجعية فى التعرف على العالم والحكم على الأشياء، فهو معيار القبول أو الرفض، ثم الإيمان بفكرة التقدم، بمعنى أن العالم يتحرك فى خطوات ثابتة دائما نحو تحقيق الأفضل.
ب- العقلانية:
يعتبر مبدأ العقلانية Rationality هو الركيزة الثانية من ركائز الحداثة، والتي تقوم بالأساس على مبدأ الذاتية الذي جعل الإنسان ذاتا لها وجودها المتيقن، مستقلا بذلك عن سلسلة التبعيات القروسطية، فقد غدا الإنسان الموضوع المركزي للتفكر، وكانت هذه خطوة نحو إحلال سيادة العقل الإنساني محل سيادة الله ([1]).
والعقلانية هي إخضاع كل شيء لحاكمية العقل، مما يترتب عليه تنظيم وضبط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ضبطا عقلانياً، لا فرق فى ذلك بين شأن ديني أو دنيوي ([2]). ويعرف برينتون الحركة العقلانية بأنها مجموعة من الأفكار التي تفضي إلى الاعتقاد بأن الكون يعمل على نحو ما يعمل العقل حين يفكر بصورة منطقية وموضوعية؛ ولهذا فإن الإنسان يمكنه فى نهاية الأمر أن يفهم كل ما يدخل خبرته مثلما يفهم مشكلة رياضية أو ميكانيكية بسيطة. وتنزع العقلانية إلى إسقاط كل ما هو خارق للطبيعة أو غيبي من الكون، وأبقت فقط على الطبيعي، الذي يؤمن المفكر العقلاني أنه قابل للفهم فى النهاية، وأن سبيلنا إلى فهمه فى الغالب الأعم الوسائل التي يعرفها أكثرنا باسم مناهج البحث العلمي ([3]).
لكن يجب الإشارة إلى ما يقصده الحداثيون بالعقل Mind، حيث يشيرون إلى العقل فى حدود معطيات الاستقراء والاختبار والتجربة، وليس العقل بالمعنى التأملي التجريدي، فالحداثة تتميز بتطوير طرائق وأساليب جديدة فى المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية. والمعرفة التقنية هي نمط من المعرفة قائم على إعمال العقل بمعناه الحسابي، أي معرفة عمادها الملاحظة والتجريب والصياغة الرياضية والتحكيم ([4]).
ترجع جذور العقلانية إلى القرن السادس عشر، حيث دعا رينيه ديكارت René Descartes ( 1596 – 1650) لإتاحة الفرصة أمام العقل لكي يعمل فى بعض المساحات المعرفية، بيد أن إيمانويل كانط Immanuel Kant (1724 – 1804) يعتبر بحق رائد ثورة العقلانية من خلال إعلانه المشهور فى كتاب “نقد العقل الخالص” عن إيمانه بوجود فواصل ما بين الطبيعة وما وراءها، مشيرا إلى إمكانية إخضاع الأولى للعقل العلمي ([5]). ويرى كانط أن العقل هو الملكة التي تمدنا بمبادئ المعرفة، وأنه لا يبحث فى طبيعة الأشياء الخارجية، وإنما هو الذي يشرع لها ([6])، جاعلا من العقل المحكمة العليا التي يجب أن يَمْثل أمامها، بشكل عام، ما يدعي مصداقية ما ليبرر إدعاءه ([7]).
ويصف الحداثيون دعوة كانط بأنها تحول فلسفي أدى إلى تحرير العقل الغربي من هيمنة اللاهوت Theology، وأدت إلى ميلاد فلسفة علمية تهيمن على القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. كما يرى الحداثيون أن التغيرات التي طالت البُنى القائمة حتّمت صعود العقل وهيمنته بدرجة أهّلته ليلعب دور المبادر فى تطوير عدد مهم من النظريات والمفاهيم، حيث ظهرت مفاهيم تتعلق بعقلنة التنظيم المجتمعي. واقتحم العقل ساحة المفاهيم القديمة كالعدل والمساواة والديمقراطية ليعيد بناءها مجددا ([8]).
واستمر سعي العقل فى تحرير نفسه من كافة أشكال الاستلاب التي حرمته من العمل الإيجابي لعصور طويلة، الأمر الذي أدى إلى ظهور العديد من العلماء الطبيعيين الذين أسسوا كثيرا من النظريات المعروفة الآن بالكلاسيكية، كما ظهر فى الإطار ذاته لوك وهيجل وماركس وآخرون من علماء الاجتماع والمفكرين، والذين اتفقوا – برغم اختلافهم الذي يصل فى بعض الحالات لدرجة التناقض – على ضرورة إعطاء العقل حقه فى وضع تصوره عن الحياة والكون. وبانتصار هذا الاتجاه أصبح العقل هو الحكم الوحيد على صحة الأشياء، بحيث تمت مرادفة السلامة الإدراكية والتفسيرية للأشياء بالمعقولية؛ على أساس أن هذه الأخيرة تطلق على ما يتفق وقواعد العقل. ونظرا لهذه المكانة العليا التي احتلها العقل فى الخطاب الحداثي، فقد أصبح الإنسان “حامل العقل” فى مواجهة مع الطبيعة، دون حاجة إلى ما وراءها ([9]).
(1) John Scott: Social Theory, Central Issues in Sociology (London: SAGE Publications L.T.D, 2006) P: 187.
(2) انظر في ذلك:
– طه عبد الرحمن: روح الحداثة، مرجع سابق، ص: 26-27.
– آلان تورين: نقد الحداثة، مرجع سابق، ص: 30.
– محمد سبيلا: الحداثة وما بعد الحداثة (الدار البيضاء: دار توبقال للنشر، 2000) ص: 26.
(3) كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث، مرجع سابق، ص: 70-71.
(4) محمد سبيلا: الحداثة وما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص: 9.
(5) الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)، ص: 116.
(6) عطيات أبو السعود: الحصاد الفلسفي للقرن العشرين (الإسكندرية: منشأة المعارف، 2002) ص: 62.
(7) هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1995) ص: 33.
(8) الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)، مرجع سابق: ص: 116.
(9) الحداثة وما بعد الحداثة (ندوة)، مرجع سابق: ص: 116-117.