إذا أردت أن تقود سيارة، فعليك أن تعرف كيف تعمل، نفس الأمر بالنسبة لقيادة البشر والتحكم فيهم، إذا أردت أن تحرك الجماهير، عليك أن تتعرف على أهم منطقة وهي الدماغ، هذا المقال يعرض 12 قاعدة لعمل الدماغ.
الإنسان، ذلك الكيان الواعي الذي يقوم تاريخنا المسجّل على تفاعلاته مع المحيط ومع أبناء جلدته. خاض معاركاً لا تنتهي، بدأت بالحجر وانتقلت إلى الحاسوب؛ معارك “ناعمة” تدور رحاها اليوم في العقل البشري. إن استطعتَ فهم قواعد هذه الغرفة التي تعلو أكتاف الإنسان وآليات عمل الدماغ فيها، ستتمكن من إدارتها بذكاء. الرأسمالية تدرك هذا الأمر جيداً، وتجيد استغلاله للحد الأقصى.
“قواعد الدماغ” هو عنوان لكتاب باللغة الإنجليزية، قام بتأليفه عالم الدماغ والبيولوجيا الجزيئية جون ميدينا، لخّص فيه آليات عمل الدماغ على شكل إثني عشر قاعدة هي عصارة تجارب علمية دقيقة امتدت سنيناً طويلة. خبرة تراكمية لعدد من العلوم التطورية صبّت في هذا الكتاب للقارئ غير المتخصص قبل المتخصص.
ظهرت فكرة كتابة هذه السطور أثناء إحدى محاضرات مادة “هندسة برمجيات التفاعل بين الإنسان والحاسب” في الجامعة، حيث دار نقاشٌ حينها تمحور حول محتوى ذلك الكتاب. عن عوامل الإنسان الحيوية في تبادل المعلومات Input/output مع محيطه. كيف تتفاعل حواس الإنسان وذاكرته مع الأنظمة الحاسوبية والأجهزة المحيطة به؟ كيف يمكننا توظيف التكنولوجيا الحديثة لتصميم أجهزة تفاعلية يستطيع الإنسان استخدامها في أشيائه اليومية البسيطة؟ كيف يمكننا تقليص الجهد الذهني الذي نبذله عند استعمال التكنولوجيا؟ وإلى ما هنالك من أسئلة علمية الطابع، لكنها تنطوي بداخلها على مبررات تجارية لغاية طرحها.
أثار ذلك النقاش لاحقاً عاصفة من التساؤلات، على أكثر من مستوى، حيث ارتبطتْ بالمنهجيّة التي تحكم رؤيتنا للواقع. فالشركات العابرة للقارات التي تسعى إلى تسويق منتجاتها اليوم تدرك جيداً هذه القواعد، بل وتحسن تصميم منتجاتها وفقاً لتلك المعايير. الشركات التي تسيطر على سوق الهواتف الذكية مثلاً (آبل Apple وسامسونغ Samsung) تعمل منذ ظهورها على الساحة بما يتماهى وعقلية المستهلِك، أو لنقل أنها تعمل على صناعة المستهلِك عبر تشكيل وعي الشخص وتشجيعه على تبنّي نمط استهلاكي معين، ومن ثم مضاعفة إيراداتها وأرباحها تباعاً.
الرياضة تعزز قدرات الدماغ
كان أسلافنا في السلّم التطوري، كما بيّنت الدراسات، يقطعون يومياً ما يعادل مسافة 12 ميل سيراً (أو 19 كيلومتر تقريباً). فالإنسان القديم كان يمارس ذلك النشاط الحركي مدفوعاً بغريزة “البقاء”، هرباً من الحيوانات المفترسة كي لا يتحول إلى غذاء لها، وبحثاً عن طريدةٍ ما أو عن أرضٍ جديدة أصلح للعيش. تكمن قيمة هذه المعلومة، وفقاً لجون ميدينا، في أن جسم الإنسان يقوم عند ممارسة الرياضة بإفراز بروتين مركّب يُرمز له باسم BDNF، والذي يعدّ بمثابة سماد طبيعي لنمو الدماغ.
ساهم هذا السيناريو البيولوجي، من خلال الحركة والابتكار الدائم لأدوات تسمح بالتكيف مع الطبيعة وحل المشاكل البسيطة، بتطوير عمل الدماغ تدريجياً لدى أجدادنا في الشجرة التطورية وصولاً إلى الإنسان العاقلHomo sapiens ، إنسان اليوم.
والآن وقد دخلنا حضارات الموجة الثالثة كما يسمّيها آلفن توفلر، تغيّرت هذه المعادلة كلياً. فوسائل الرفاهية والترف الجديدة قد حوّلت الحركة إلى أمرٍ شاق، يجعلنا نعيد التفكير مرتين قبل أن ننتقل من أمام جهاز التلفاز إلى المطبخ مثلاً. أطعمة سريعة وجاهزة تختصر الوقت، اعتماد مطلق على التكنولوجيا لدرجة إحلال التقنية والحاسوب الإلكتروني محل وظائف المخ الأساسية.
وصلت مبيعات الهواتف الذكية عام 2015 بحسب هيئة البيانات الدولية IDC إلى 1.43 مليار جهاز حول العالم. يبدو الأمر حقيقةً وكأننا نرفض الطلاق مع هواتفنا لحظة واحدة، فشاشات تلك الأجهزة وأنظمتها مصممة لتسمّر الناس في أماكنهم.
تتجلى هذه القراءة في الإحصاءات والأرقام المختلفة التي تُظهر انهياراً كبيراً بمستويات الذكاء والتركيز لدى الأجيال الحالية، وفقدان الرغبة بالتعلم والإبداع، وضياع الحس السليم في التقاط المواقف من الأحداث اليومية، تحت ضغط عجلة التكنولوجيا التي يديرها رأس المال.
الدماغ تطور أيضاً
كلٌ من أعضاء جسم الإنسان المعقدة قد خضع لمقاربة تطورية مختلفة نقلته من البسيط إلى الأعقد، تسلُّق جبل “اللاممكن” كما يسمّيها ريتشارد دوكنز. عملية طويلة جداً وتراكمية تحكمها قوانين التطور البيولوجي في الانتقاء الطبيعي Natural Selection. ودماغ الإنسان ليس بعيداً عن هذه المقاربة بالطبع.
التفاصيل التقنية لهذه العملية هي مبحثٌ آخر لا نريد الخوض فيه، فالفكرة هي تطور منطق الرموز واللغة مع تمرحل الدماغ من الخلايا العصبية البدائية وصولاً إلى تكوّن قشرة الدماغ المعروفة باسم Cortex، وهي المادة الرمادية الأرقى والجزء المسؤول عن معظم الوظائف الواعية.
ظهر منطق ترميز الأشياء في البداية كإحدى آليات النجاة من الطبيعة القاسية ومحاولات الإنسان لفهم الآخرين في محيطه. حيث يتميّز دماغ الإنسان المتطور بالمنطق الرمزي Symbolic Reasoning دون غيره من الكائنات، فهي موهبة فريدة ساهمت في استمرار جنسنا، الذي أبدع مفهوم العمل والإنتاج. لقد بدأنا أولاً باستخدام الأصوات التعبيرية رمزاً للأخطار المحدقة: نمر يستعد للانقضاض، عاصفة في الأفق، مستنقع خطر.. إلخ.
كانت هذه الآلية بذرةً للغات المحكية التي حفرت طريقها إلينا اليوم عبر آلاف السنين من التطور. إذن، أين تكمن المشكلة؟ الواقع أن الإشكالية ليست في نموذج الترميز، بمعنى أنها ليست في الدال والمدلول، بل في فقدان العلاقة بينهما. فمشكلة عصرنا تتمظهر في حالة الاغتراب التي ولّدها منطق المنظومة الرأسمالية، حالة الانفصال التعسفي التي نعيشها مع كل ما أنتجه العقل البشري. كيف للرمز أن يتحول إلى جوهر؟ كيف له أن يفقد ارتباطه مع ما يرمز إليه ويصبح بديلاً عنه؟
استثمرت الرأسمالية هذه النقطة جيداً، أي ميل الإنسان إلى ترميز الأشياء من حوله، في إطار السوق وثقافة الاستهلاك. علامة تجارية بارزة هنا وأُخرى هناك، يُصبح اقتناؤها مظهراً اجتماعياً يتداخل مع سيكولوجيا الجماهير والوعي الجمعي. عطور وملابس وربما أحذية رياضية، ليس الهدف من اقتنائها ما تحققه من منفعة بل ما تحمله من صور استعراضية ودعائية: نجم تلفزيوني، مغنية أو راقصة، لاعب مشهور؛ جميعهم يتقاطعون في الترويج لهذه السلعة أو تلك، في الرمز لا في الجوهر.
الصورة، الحركة، والإرهاق
يعتمد دماغ الإنسان في اختيار ما يعجبه وما يرغب بتوجيه الانتباه إليه على الذاكرة والخبرات السابقة المتراكمة مع الزمن. وعلى أرض الواقع الحديث يبدو أن جيل الثورة التكنولوجية يفضّل استنباط المعنى من الصور، بعيداً عن النصوص التي تحمل معها ثقل المعرفة النظرية وعبء المسؤولية.
وهنا يأتي دور الذاكرة في توجيه رغباتنا وأنماط المعيشة الخاصة بنا، فذاكرة الإنسان محشوة تماماً بعدد هائل من الصور التي تتسلل إلى أدمغتنا جراء القصف المستمر للإعلام والتلفاز والإنترنت.
يشير الكتاب إلى أن أهم المحفزات التي يلتفت لها المخ البشري تتلخص في ثلاثة عوامل: الحركة، التهديد، والجنس. فالأنماط الحركية والوسائط المتعددة Multimedia تجذب انتباه الإنسان أكثر من الكتب والقراءة “الرتيبة”، التي تَشكَّل موقفه إزاءها بفعل التأثيرات المادية للنظام الاجتماعي.
كيف يمكننا تصميم الأنظمة التفاعلية التي يستخدمها الإنسان بشكل يخفض من الجهد المطلوب للتعامل معها Cognitive Load واستيعاب طريقة عملها؟ هذا هو السؤال الجوهري الذي تطرحه سياسات التسويق الرأسمالي في الشركات المعنية بالتكنولوجيا وتطبيقاتها.
الشاشات الغنية بالألوان والمنبهات البصرية تنجح أضعاف المرات في إغراء مستهلكي السوق الحديث، على عكس المنتجات التعليمية التي تخلو من “المتعة” سهلة المنال.
هل الاهتمام هو ما يوّجه رغباتنا العمياء؟ أم أن رغبات الإنسان المسبقة هي من يقود الدفّة؟ وكيف تتشكل هذه الرغبات لدينا أساساً؟ في الواقع، يجيب جون ميدينا على هذا السؤال بأن آليات التسويق والإعلان والعرض والطلب هي من يوجّه دماغ الإنسان لبناء رغبات مصطنعة تسحبه معها صوب دوامة السلع التي وسّعت قائمة الخيارات، وبالتالي تجرّ هذه الرغبات اهتماماتنا لاقتناء السلعة المرغوبة (سواء كانت تحقق حاجة جسدية أم ذهنية).
“الإنسان لا ينتبه إلى الأشياء المملة”. هكذا يصف ميدينا عقل الإنسان الذي يعيش في عصر التصنيع المؤتمت والتكنولوجيا “المتاحة” للجميع.
وهذا العصر الصناعي نفسه هو المسؤول الأول عن الإرهاق الذي يضرب أدمغتنا؛ عن الاستنزاف والاستلاب الذي يلتهم الوعي باطراد. لم تعد القضية اليوم مجرد رهانات على الأجور والأسعار وتحسين شروط العمل، لقد تجاوزت كل ذلك وقفزت إلى عجزنا المطلق في القدرة على فهم الذات، في إدراك الشعور الجمعي الذي يحرك الجماهير. يبتلعنا العمل في وقت محدد ليستنزف الطاقات الذهنية حتى آخرها، ثم يلفظنا خارجاً في وقت محدد أيضاً. دائرة محكمة تفرضها علاقات العمل الرأسمالي، ولا نخرج منها إلا عقولاً محطّمة تتآكل من الداخل.
قواعد النجاة
يقوم النظام الدفاعي في جسم الإنسان بإفراز الأدرينالين والكورتيزول عند الإحساس باقتراب الخطر، وهي ظروف بيولوجية لها بواعث محددة؛ لكنّه يقوم بإفراز نفس المواد بالمقابل عند الشعور بالإرهاق أو التوتر. وكنتيجة للإرهاق والتوتر المستمرين، لذلك يتضرر مركز التعلم والذاكرة في الدماغ hippocampus وبصورة موازية له الأوعية الدموية أيضاً.
لقد تطوّر جسم الإنسان بطريقة ما ليقوم بردود الفعل العفوية والمناسبة عندما يشعر بوجود تهديد مباشر، لكنه لم يتطوّر ليقاوم الضغط النفسي الدائم على الدماغ. ثمة اختلاف كبير بين الحالتين، فالأولى تنبع من الداخل بغرض النجاة Survival، أمّا الثانية فتأتي من الخارج وتؤول مع مرور الوقت إلى تدمير الخلايا العصبية، وتعطيل مناطق الإحساس والوعي فيها.
وهنا يكمن بيت القصيد، فالمنظومة الاجتماعية التي تحكم عالمنا اليوم تعمل كمؤثر خارجي قادر على إبقائنا في حالة خوف وقلق مستمر من أشياء لا نراها وربما لا نفهمها. كنّا نخشى الحيوانات البرية قديماً، أمّا اليوم فنخشى ألا تقوم شركة التأمين بتغطية أضرار السيارة مثلاً، نرتعب من فقدان وظائفنا، نخشى خسارة مدخراتنا الضئيلة في البنوك. كل ذلك، يبرر حالات الهستيريا الجماعية التي نعيشها اليوم.
خلاصة واستنتاجات
كذبة “الوفرة” التي روّجت لها الرأسمالية عقوداً طويلة، انكشفت عند عجز البشر عن تسلق “خط الفقر” الذي رسمته هي بنفسها؛ سقطت تلك الأوهام في لحظات إخفاقنا بملامسة أبسط معاني الحياة. وعود “الخلاص” الزائف لن تُنجز أبداً، ومجتمعاتٌ برمتها تقاسي أصناف الانحرافات السيكولوجية المولودة من رحم المنظومة ذاتها. كبت جنسي واغتصاب، توتر وجنون، اكتئاب، أدمغة عاطلة عن العمل، ضغط الاستهلاكية يذبح وعينا بسكّين المال، وجموع غفيرة تمارس القتل باسم الهوية والدين والخرافة. يقومون بتعطيل دماغكَ بشتى الوسائل، ويدعونكَ تحتار في فضاءات وهمية لا خلاص منها.
والسؤال الآن: كيف ترى نظاماً اقتصادياً قائماً اليوم له شروطه التاريخية الخاصة في المراكز وفي الأطراف، يدفع بكَ إلى أقصى حدود القلق في تكثيف همومك المتراكمة، ويتساءل بكل “براءة” عن أسباب ارتفاع حالات الانتحار والجريمة والمرض؟ عن دوافع السرقة في مواجهة ميكانزمات التفقير الممنهج؟ عن انعطاف السيكولوجيا البشرية داخل نفق العصور الوسطى المظلم؟
كل ذلك يأتي في بوتقة واحدة، بوتقة لها عنوان واحد بالضرورة: الرأسمالية العالمية.