تمَّت هذه الترجمة على عدّة مراحل بمساهمات مختلفة مني، وفهد الحازمي، وحسين القطان، وراية الردادي. هذه المناظرة ليست كاملة، بمعنى أنه تمّ اقتطاع أجزاء منها من قبل التلفزيون الهولندي لتخرُج بهذا الشكل، يمكن مُلاحظة هذا الاقتطاع من الفيديو، ولكن الأكثر دلالةً على هذا الاقتطاع: النص المكتوب الكامل للمناظرة، والمطبوع في كتاب منشور، والمنقَّح والمزيَّد من قبل فوكو وتشومسكي نفسهم. ولذا، كان اعتمادنا على الترجمة الإنجليزية للفيديو، وعلى نص الكتاب نفسه.

– ما الذي أضافته لي هذه المناظرة؟

في الحقيقة، كنتُ -مثل الكثير غيري- لا أعرف عن تشومسكي أكثر من مواقفه السياسية، وأعرف أن لديه مكانةً مُحترمة لدى علماء اللسانيات. اللسانيات! هذا الحقل الذي طالما كرهتُ القراءةَ فيه، وبدا لي عسيراً، فورَ ما أفتح كتاباً من كتُب اللسانيات أجد الكثير من الأمثلة الدقيقة والرسوم والقواعد التركيبية، أُغلِق الكتاب وأقول: لن يقرأ شيئاً مثل هذا غير المختصّين فيه. أقرأ عن مصطلح (التوليدية) والذي كان تشومسكي رائداً فيه، لا أعرف عن هذا المصطلح شيئاً، أحاول القراءة عنه في مصادر أخرى، لكن تبدو لي دائماً أن هناك حلقةً مفقودة تمنعني من الفهم.

فوكو = كشف السلطة، هو ذلك الفيلسوف الذي يضع المجهر على كل التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية فيُريك كيف تتبدّى السلطة من خلالها. بهذه المعادلة وبهذا الاختزال كانت نظرتي لفوكو، ربما أضيف إلى كشف السلطة أموراً من قبيل: فيلسوف نيتشوي، فهمه عسير وأفكاره معقّدة، لكنّها عميقة. عميقة لدرجة لا أحتاج أن أصل إليها، مثله مثل نيتشه الذي يثقُ دائماً أن القليل جداً سيفهمه.

ولكن..

محاولةً مني لأن تكون ترجمة هذه المناظرة مكمَّلة، لها عناية واهتمام خاص، حرصتُ على القراءة لكلا الفيلسوفَيْن طوال فترة العمل عليها، كل هذا في سبيل أن أصلَ إلى فهمٍ أكثر دقة لهما. كانت كلماتهم في المناظرة تُساعدني كثيراً، فهي مبسَّطة إلى حدٍّ كبير، كلام تشومسكي عن (الإبداع) والاستعداد الغريزي لاستيعاب اللغة؛ كانت تشرح بوضوح ما تعسَّر عليَّ كثيراً فهمه.

كلمات فوكو وإصراره على تجاهل (اللحظات الخاصة) للعلماء وأنها تُعطى اعتباراً مبالغاً فيه، واستحضاره مثالاً على ذلك (لحظة تصور نيوتن للجاذبية) ذكّرتني مباشرةً بكل الشغف الذي كنا ندرس فيه لحظة سقوط التفاحة، فوكو يقول: هي ليست مهمة، وهذا النوع من تأريخ العلوم يحتوي على العديد من المشكلات، فوكو مشغول بـ(لاشعور الثقافة)، بما كان مخفياً ومكبوتاً في الثقافة، وكيف أن هذه التحولات العلمية هي تُظهِر شيئاً كان موجوداً وتكبُت شيئاً آخر ظلّ موجوداً كذلك. يقول في النص المطبوع: (يجب على المؤرّخ أن ينظر إلى موضع “شاذ” لكي “يكتشفه”. يبدو هذا كأنه استدعاءً لشكل من “الرومانتيكية” عن تاريخ العلوم: عزلة رجل الحقيقة، الأصالة التي تعيد نفسها على ما هو أصيل في التاريخ وبغض النظر عن ما يبدو عليه).

الجزء الثاني من المناظرة، والذي كان يدور حول الفلسفة المؤسِّسَة للمواقف السياسية لكلاً من المفكِّرَيْن، -ويعني هذا أنه ليس نقاشاً حول المواقف السياسية بحد ذاتها وبشكل مباشر، بل هو أبعد من ذلك إلى الأسس التي تستنِد عليها مختلف المواقف السياسية-، كان هذا الجانب الأكثر تأثيراً فيَّ. بدا تشومسكي أقرب لي كثيراً من فوكو.

أحد النقاط المهمة التي وجدتها في المناظرة، الطريقة التي يفرِّق فيها تشومسكي بين (النظام الأفضل) و(النظام المثالي)، يحمل تشومسكي العديد من الأفكار حول تصوّره للمجتمع والنظام الأكثر عدالةً والملائم للمجتمع التكنولوجي، المميّز هنا: أنه رغم الثقل النظري -في كتاباته- عن هذا المجتمع وذلك النظام، فهو يقر بوضوح أن هذا (النظام الأفضل) لديه عيوبه وأننا بطبيعة الحال محدودينَ بثقافتنا وبهذا الزمن.

نقطة أخرى متعلّقة بالعصيان المدني، يقدِّم تشومسكي مقارنةً معقولة بين فكرة العصيان المدني وقطع أحدنا للإشارة الحمراء ليمنع جريمة قتل، وأن العصيان المدني يحصُل من قبل من يعتقد أن الدولة هي المجرمة. يعني هذا أن تشومسكي لديه أفكاراً (قيميّة) عن ما تكون عليه الدولة وإذا تجنّبته فهي مُخطئة، وكل هذا بتأثير فكرة عن العدالة المثالية. فوكو بالمقابل، ينظر إلى مفهوم العدالة باعتباره احتجاج يُوظَّف دائماً من قبل الطبقة المضطهدة، وأن (العدالة) ليست هي ما توجِّه (البروليتاري) لمناكفة السلطة، بل الحرب التي يخوضها لأنه يريد أن يفوز. وأن هذه القيم حول (الطبيعة البشرية والعدالة وإداراك حقيقة الإنسان) هي قيم تشكّلت داخل الحضارة وشكّلت جزءًا من النظام الطبقي، بالتالي لا يمكن أن تكون قيماً مبدئيّة لتبرير الكفاح الذي يجب عليه أن يطيح بأسس المجتمع.

يبدو كلام فوكو في مآلاته خطير جداً ومرعب، محل الرُّعب فيه: هذه النظرة التي لا تعطي ذلك الاعتبار لقيم إنسانية أسمى. بالنسبة لي، أرى أن قدراً من الإيمان بقيم إنسانية مشتركة لا بد أن يكون حاضراً، وأن شيئاً كهذه القيم هو ما يمنع من استمرار النُّظُم الشمولية والاستبدادية ويساهم في تحرُّر الإنسان سياسياً. لطالما وجدت أن الطرحَ الذي يُعلي من شأن النسبيّة الثقافيّة بين الأمم، والنسبية القِيَمِية، ونقد القيَم الإنسانية المُطلقة، لطالما وجدت أن هذا الطرح جذّاب جداً ومثير للاهتمام من الناحية النظريّة، وغير مسؤول وغير عملي في الناحية العمليّة. أرى أن قدراً من القِيَم الليبرالية حول حقوق الإنسان ضروريٌّ جداً في أي كفاح، مهما بدت هذه القيَم من الناحية النظرية محدودة بثقافة وسياق آخر.

– محتوى المناظرة:

يناقش الجزء الأول من هذه المناظرة الخلفية النظريّة لآراء الفيلسوفَين. يتحدّث تشومسكي عن أفكاره عن القابلية الغريزية للإنسان لتعلُّم اللغة، وكيف يساهم الإنسان في صنع اللغة، وعلاقة هذه الأفكار بمفهومه عن الطبيعة البشرية. ويتحدّث فوكو عن الإشكالات التي يراها في أطروحة تشومسكي، ويقارن مفهوم (الحياة) في علم الأحياء بمفهوم (الطبيعة البشرية)، ويطرح مشكلة تاريخ العلم بشكله التقليدي والذي يركِّز على (إبداع) العلماء “الذين اكتشفوا الحقيقة”، في ما يبدو على أنه مخالفةً لتشومسكي؛ قبل أن يوافقه تشومسكي ويوضِّح أكثر فكرته عن مصطلح (الإبداع) واتصاله بالطبيعة البشرية.

الجزء الثاني من هذه المناظرة يدخُل بشكل مثير للانتباه في المواقف السياسية التي يستنِد عليها كلاً من الفيلسوفَين. يتحدّث تشومسكي عن العصيان المدني، والقانون الدولي، والإمبريالية، والقِيَم التي تحرِّكه في الصراع ضد السلطة. في حين يُبدي فوكو ملاحظاته على القِيَم التي تستنِد على (عدالة مثالية) عند تشومسكي ويقرِّر أن الصراع يجب أن يكون تحت مظلة الحرب لا العدالة، وأن (البروليتاري) يبدأ الحرب لكي يفوز بها وليس لأنها عادلة، النقطة التي يؤكّد تشومسكي اختلافه معه حولها مؤكِّداً قيمة العدالة. كما يؤكِّد فوكو على الانتباه لدور المؤسّسات التي تتظاهر باستقلاليتها عن الدولة في حين أنها صُنِعَت للمحافظة عليها، ويضرب أمثلة على ذلك: المؤسسات التعليمية، مؤسسات الوعظ والرعاية والطب النفسي.