السياق التاريخي للحداثة .. متى نشأت، وكيف تطورت ؟ (1) – د. محمد عجلان
يرجع الكثير من الباحثين بداية الحداثة إلى تراجع نظرة العصور الوسطى للعالم خلال القرن الرابع عشر، حيث أخذت تظهر بالتدريج قوى جديدة عملت على تشكيل العالم الحديث كما نعرفه اليوم. فمن الوجهة الاجتماعية، أصبح البناء الإقطاعي Feudality للمجتمع الوسيط غير مستقر نتيجة لظهور طبقة قوية من التجار الذين تحالفوا مع الحكام ضد مُلاك الأرض الخارجين عن كل سلطة. ومن الوجهة السياسية، فقد النبلاء قدرا من حصانتهم مع ظهور الأسلحة الجديدة، التي جعلت من المستحيل عليهم الصمود فى قلاعهم التقليدية([1]).
فقد قامت الحداثة فى الغرب على أنقاض المجتمع الزراعي الإقطاعي أولا، وثانيا على تخلخل المفاهيم الدينية والميتافيزيقية والمثالية التي شكلت العامل الأساسي لرؤية الوجود والأيديولوجية التاريخية الملازمة لهذا المجتمع. فقد كان المجتمع الأوروبي الوسيطي يقوم، من حيث تركيبته السياسية والاجتماعية، على تفتيت السلطة المركزية، وعلى سيطرة الإقطاع على مصادر الثروة الأساسية وهي الأراضي الزراعية، كما كان يقوم على مستوى الأيديولوجيا الدينية والفكرية على مبادئ ثبات القيم والتحديد المسبق عرفا وقانونا للهيراركية Hierarchy الثلاثية التي تحكم النظام الاجتماعي، وفقا لمبادئ العبادة (رجال الدين) والقتال (النبلاء) والعمل (الفئة الثالثة وتشمل البرجوازية ومختلف فئات الشعب الأخرى). وأخيرا كانت الرؤية الميتافيزيقية للوجود، التي بلورتها علوم اللاهوت والفلسفة المدرسية فى جمعها بين الفلسفة والدين طريقة كبار فلاسفة المسلمين، تشكل الركيزة الأساسية لأنساق القيم والمعايير والمثل التي لا تنظم فحسب مجمل العلاقات الاجتماعية على هذه الأرض، وإنما كذلك علاقة الأفراد بحياتهم الأخروية من حيث الرؤية الرأسية للعالم، ومن حيث مفاهيم الخير والشر والطاعة والمعصية والثواب والعقاب([2]).
وقد جاءت قيم الحداثة مواكبة لمعظم التغيرات التي أصابت هيكل المجتمع الإقطاعي، وأدت إلى خلخلته، ثم إلى انهياره بعد ذلك. وأول مظاهر هذا التغيير سوف ينبثق من عملية التناقض الذي ينشأ من الصراع المتولد بين رجال الإقطاع والسلطة الملكية من جهة، وبينهم وبين الطبقة البرجوازية الصاعدة من جهة أخرى، خاصة مع بدايات ازدهار ظاهرة المدن وانتعاش التجارة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر. ذلك أن الملكية كانت تسعى جاهدة إلى تثبيت السلطة المركزية، ومن ثم القضاء على الإقطاع ومنظومة القيم والمفاهيم التي يمثلها، خاصة ما يتصل منها بولاء الأقنان لأسيادهم الإقليميين، والقضاء أيضا على التضارب بين حقوق الإقطاع وحقوق الملكية الصاعدة، على مستوى تحصيل الضرائب والتنظيمات والتشريعات الإدارية والقضائية والعسكرية ([3]).
(1) برتراند راسل: حكمة الغرب، الفلسفة الحديثة والمعاصرة، جـ 2 (الكويت: عالم المعرفة، عدد 72، 1983) ص: 17.
(2) محمد علي الكردي: من الحداثة إلى العولمة، ط1 (الإسكندرية: الملتقى المصري للإبداع والتنمية، 2001) ص: 11.