السياق التاريخي للحداثة .. متى نشأت، وكيف تطورت ؟ (2) – د. محمد عجلان
وكانت الطبقة البرجوازية الناشئة فى المدن الإقليمية تعاني من سيطرة الإقطاع، ليس فحسب على الأراضي الزراعية المحيطة بهذه المراكز الآهلة بالسكان، وإنما أيضا على أجزاء هامة من مساحاتها العمرانية، وهو الأمر الذي دفع هذه الفئة من التجار والأعيان من أصحاب المناصب البلدية إلى مقايضة النظام الملكي على تحرير المدن التجارية الهامة مقابل هِبات مالية ضخمة، تساعده على تقوية الحكم المركزي وتدعيم الوضع المادي للخزانة، وهو ما يتيح له تجييش الجيوش ودفع مرتبات موظفيه والوقوف أمام العصيان المحلي والاعتداءات الخارجية على البلاد ([1]).
وهذا ما دعا “لاسكي” للقول: بأن هذه البرجوازية الساعية نحو القوة، قد هدمت فى سبيل سعيها نحو القوة الحواجز التي كانت تجعل الامتياز مترتبا على المركز الاجتماعي، وكانت تربط فكرة الحقوق بحيازة الأرض. وقد أحدثت أيضا تغييرا أساسيا فى العلاقات القانونية بين الناس لتصل إلى غايتها، فحلّ العقد محل المركز الاجتماعي كأساس قانوني للمجتمع. وبعد أن كانت الأرستقراطية – التي تقوم سلطتها على حيازة الأرض هي التي تتحكم فى السياسة – شاركها رجال يستمدون نفوذهم من رأس المال المنقول وحده، فرجل المصرف والتاجر وصاحب المصنع بدأوا يحلون محل مالك الأرض ورجل الدين والقائد كنماذج للنفوذ الاجتماعي السائد ([2]).
ولقد لعب هذا التحالف الذي فرضته الظروف التاريخية الموضوعية والمصالح الاقتصادية والوطنية المشتركة، لعب دورا كبيرا في تأسيس الدولة القومية الحديثة فى أخريات القرن الخامس عشر، وفى تحقيق هدفين كانا بمثابة الشرط الأساسي لقيامها، والغاية التاريخية الحتمية التي كان لا مناص من انتهائها إليها. والهدف الأول هو الارتباط العضوي بين وظيفة النظام الملكي، الذي نشأ على أثر تفتت وتصدع الإمبراطورية الرومانية، وبين قيام مفهوم الأمة Nation ذات البعد التاريخي واللغوي والمرتبطة بانبثاق الوعي القومي.
أما الهدف الثاني، فهو ضرورة تحرير السوق المحلية من سيطرة الإقطاع كطبقة استهلاكية مبددة للثروات الإقليمية، والتحول إلى السوق الوطنية التي تلتقي عبرها مصالح الطبقات البرجوازية الصاعدة مع المصالح القومية. ويشمل كذلك الهدف الثاني ضرورة تأكيد الحريات الإقليمية وحرية الانتقال وحرية الأشخاص والتجارة والتملك، وذلك ما تتميز به هذه القيم، بجانب خصوصيتها الطبقية، من سمات إنسانية يسهل تعميمها فى إطار تصور شمولي للوطن كقوة قومية ولغوية ودينية متجانسة. وثمة تلازم وثيق، ليس فقط بين نمو العقلية أو الأيديولوجية البرجوازية ومبدأ قيام السوق الوطنية، وإنما أيضا بينها وبين البحث عن صيغ قانونية تتلاءم مع عملية التوحيد الإقليمي الذي حققته تاريخيا، وإن على فترات تاريخية متباعدة، النظم الملكية المنبثقة عن تفتت الإمبراطورية الرومانية منذ أواخر القرن الخامس الميلادي وبداية تشكل الدول الأوروبية المقبلة ([3]).
(1) محمد علي الكردي: من الحداثة إلى العولمة، مرجع سابق، ص: 12.
(2) هارولد لاسكي: نشأة التحررية الأوروبية، ترجمة عبد الرحمن صدقي (القاهرة: مكتبة مصر، د.ت) ص: 5.
(3) محمد علي الكردي: من الحداثة إلى العولمة، مرجع سابق، ص: 12 – 13.