السياق التاريخي للحداثة .. متى نشأت، وكيف تطورت ؟ (3) – د. محمد عجلان
ولقد ساهمت حركة الإصلاح الديني Reformation فى زيادة سلطة الملكيات ودعمها، حيث أيقن رجالات الإصلاح أن الكنيسة غير قادرة على تحقيق الإصلاح من داخلها، وأنه لن يكون ثمة إصلاح ناجح دون الاستعانة بالحكام الزمنيين. لقد اكتشف مارتن لوثر Martin Luther (1483 – 1546) فى وقت مبكر أن نجاح الإصلاح فى ألمانيا كان يتوقف على نيل مساعدة الأمراء. وفى إنجلترا تحقق الإصلاح عن طريق سلطة هنري الثامن شبه المطلقة، وكانت النتيجة المباشرة لذلك مزيدا من القوة للسلطة الملكية. وفى أوروبا بوجه عام، كان الملك هو النقطة الواحدة التي يمكن أن تتجمع حولها الوحدة الوطنية ([1]).
وفى ظل هذه الظروف التي شهدت ثورات على صعيد الفكر الديني (كالفن – مارتن لوثر) أو على صعيد العلم (كوبرنيك – جاليليو) كان قيام الثورة الفرنسية 1789 حدثا تاريخيا بحق؛ فهي من ناحية أولى جسّدت وتوجت نضالا طويلا ضد سياق التخلف والجمود. ومن ناحية ثانية اعتبرت نقلة موضوعية خطيرة تهدد عروش الأمراء ونفوذ الإقطاعيين الذين سارعوا بعقد حلف مقدس لصدها. وهي تمثل أملا لأصحاب المظالم وللقوى الاقتصادية الصاعدة التي أعاقها النمط التقليدي عن النمو والتعبير السياسي عن مصالحها([2]). ولقد انعكس أثر هذه التحولات فى البينة السياسية للدولة والبنى الاقتصادية والاجتماعية للتجمعات الإثنية المكونة لشعوبها، ليس فقط على عملية إعادة توظيف الدين، الذي كان يمثل الرؤية الأيديولوجية السائدة لمجتمعات العصور الوسطى، وإنما انعكست أيضا على تشكيل المفاهيم الفكرية والأدبية والفنية المواكبة لقيام العالم الحديث. ذلك أن الدين كان يشكل – فى العصور الوسطى – القاعدة الأساسية لنظرة الأمم المسيحية إلى الكون والحياة. إلا أن هذه الشمولية الدينية أخذت فى التفكك التدريجي مع بدايات العصور الحديثة ([3]).
وعلى الصعيد الفكري، فإنه يمكن التأريخ لبداية الحداثة بأعمال كل من بيكون Francis Bacon (1561 – 1626) وديكارت Rene Descartes (1596 – 1650)، حيث يمكن تلمس معالم الحداثة فى الأورجانون الجديد لـ “بيكون” ومقال فى المنهج لـ “ديكارت” ([4]) . ويمكن اعتبار أن أكثر مستويات الحداثة بطئا هي الحداثة الفكرية. لقد ابتدأت الحداثة الفكرية بالإحلال التدريجي لمبدأ معقولية جديد فى ميدان الطبيعة، حيث أدى التطور التدريجي للفيزياء إلى إبراز ميكانيكية الطبيعة وإلى الكشف عن القوانين المختلفة التي تخضع لها من دون إضافة، ثم أخذ هذا المبدأ يرتسم فى مجال الإنسانيات. وما يسمى بثورة العلوم الإنسانية أو الاجتماعية ليس إلا إدخالا لمبدأ الحتمية إلى الميدان الإنساني لفهم المجتمع والفرد والتاريخ فى ضوئه ([5]).
(1) جورج سباين: تطور الفكر السياسي، ترجمة راشد البراوي، جـ3 (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ت) ص: 57.
(2) كريم خميس: مأزق الحداثة، نظرة أولية، بحث فى كتاب الحداثة وما بعد الحداثة، مرجع سابق، ص: 114.
(3) محمد علي الكردي: من الحداثة إلى العولمة، مرجع سابق، ص: 13 – 14.
(4) Krishan Kumar: From Post-Industrial to Post-Modern society, op. cit, P: 99.
(5) محمد سبيلا: مدارات الحداثة، مرجع سابق، ص: 128.