إنها تلك الأسئلة التي تخطر على بال أطفال الحضانة، أو على بالك أنت شخصيًا بينما تحدق في السقف المظلم قبل أن تخلد للنوم مباشرة. للوهلة الأولى تبدو تلك الأسئلة سخيفة غير منطقية على الإطلاق، وهي كذلك بالفعل في معظمها لذا سنختار منها ما يبدو سخيفًا في الظاهر فقط لكنه ذو تفسير علمي سيهمك معرفته!
وسؤال هذا المقال السخيف (السؤال هو السخيف وليس المقال من فضلك): كبشر، كان يمكننا أن ننتهي بأي عدد من الأصابع في أيدينا وأقدامنا، لكن لماذا انتهينا إلى الرقم 5 في كل يد وقدم؟
حسنًا، هناك عدة أجوبة مقترحة للإجابة على هذا السؤال … بمعنى آخر، لا أحد يعلم على وجه الدقة السبب! وبالتأكيد ستجد مؤيدي كل معسكر يدافعون باستماتة عن السبب الذي توصلوا إليه؛ لكن فلننظر نحن فيها ونقرر في النهاية!
قانون الأطراف Limb Law
هممم؟ قانون الأطراف تقول؟ لم يخبرني أحدهم بوجوده من قبل! وعلى الأرجح لو بحثت أكثر لوجدت قانون ما لمروحة السقف كذلك!
ما يهمنا هنا هو النظرية الرياضية التي خرج بها علينا المؤلف والباحث العلمي مارك شانجيزي Mark Changizi في 2011 تحت اسم “قانون الأطراف Limb Law” وحاول فيها من خلال معادلة مبتكرة أن يحدد العدد المثالي للأطراف التي يحتاجها كل حيوان، بناءً على بيئته وحجم جسده.
وبتطبيق قانون الأطراف على أكثر من 190 فصيلة ونوعًا من شعبات حيوانية مختلفة، وجد شانجيزي أن حساباته الرياضية قد صمدت وأثبتت نجاحها في احتساب العدد الضروري لأطراف كل حيوان؛ لذا انتقل الباحث لتطبيقها على الإنسان كمحاولة لتفسير السبب وراء امتلاكنا لعشر أصابع. وللقيام بهذا، ستكون أيدينا هي “الحيوان” والأصابع هي “الأطراف”! وبعد تطبيق المعادلة وجد أن العدد المطلوب لكل يد أو قدم هو 4.71 اصبع! هذا قريب للغاية أو مطابق في الواقع!
التطور، بالطبع!
فإذا انتقلنا إلى عالم بيولوجيا، سنحصل على إجابة أبسط بكثير: نحن نمتلك 10 أصابع لليدين والقدمين لأن هذا الرقم تحديدًا يمنحنا ميزة تطورية نحتاجها كي نظل على قيد الحياة في العالم الذي نعرفه! فلو كنا نعيش في كون آخر موازي أو لم تنقرض الديناصورات مثلًا أو تغيرت الظروف لأي سبب، فلربما انتهينا إلى 8 أصابع في اليدين و11 إصبع في القدمين!
وبالمناسبة، فالدراسات تشير إلى أننا لو كنا تطورنا كي نحصل على أصبع سادس في كل يد، فعلى الأرجح كان هذا الإصبع لينمو في راحة يدنا! كما الباندا! فقط هنا أنوه إلى أن لفظ “تطور” لا يعني دائمًا الزيادة أو التحسن، بل يعني في معظم الحالات “التكيف” كي نصبح أقدر على الحياة بشكل أفضل، وقد يتحقق هذا بإضافة شيء ما أو نقصانه!
تقول أن هناك من يولد بستة أصابع بالفعل، وساعتها يصطف الإصبع السادس كالبقية ولا يخرج في راحة اليد كما تقترح تلك الدراسات؟ هذا لأن هذا الإصبع الزائد يعد تشوه خلقي مع الولادة، ويدعى طبيًا بـ Polydactyly أو تعدد الأصابع؛ أي أنه مجرد خطأ جيني لا أكثر وليس صفة تطورية استغرقت الكثير والكثير من الوقت حتى تصبح دائمة وسائدة. ومرة أخرى، ما يحكم هذه النظرية هو مدى حاجتنا لهذا الإصبع الزائد وما ينبغي عليه القيام به، وساعتها قد يظهر في راحة اليد أو إخمص قدمنا!
آلان تورينج والجينات!
في بداية تكوننا، تنشأ أطرافنا وأصابعنا كبراعم صغيرة تنبت من جوانبنا بينما نحن لا نزال أجنة واهنة بعمر 4 أسابيع فقط. وبحلول الأسبوع السادس، تكون هذه البراعم الطرفية قد نمت واستطالت مع ظهور ما يشبه 5 أعواد غضروفية في مقدمة تلك البراعم المسطحة. ومع الأسبوع السابع، تموت الخلايا بين تلك الغضاريف الطولية، لتظهر 5 أصابع صغيرة في كل يد وقدم، بعدما كانت مجرد كتلة بلا شكل من اللحم من قبل!
في عام 2014، خرج علينا فريق بحثي بقيادة جيمس شاربي James Sharpe من مركز Centre for Genomic Regulation بإسبانيا، ليعلنوا أن نمط تشكل وتعدد الأصايع محكوم بثلاثة جزيئات جنينية معينة. والغريب أن أساس هذا الاكتشاف يرجع لنظرية قديمة طرحها للمرة الأولى عالم الرياضيات والتشفير الأسطوري آلان تورينج Alan Turing في 1952!
ساعتها، اقترح العبقري تورينج نموذج رياضي بسيط يقوم فيه جزيئان بخلق أنماط تكوين من خلال الانتشار عبر الخلايا والتفاعل مع بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، يقوم الجزيء الأول بتنشيط الجزيء الثاني، بينما يقوم الجزيء الثاني بكبت أو تثبيط الأول، وهكذا! ولأن تلك الجزيئات لا تتلقى أي توجيه لسلوكياتها في الحركة، فإنها تتجمع في رقصة محمومة متواصلة على هيئة بقع أو نقاط أو خطوط تختلف باختلاف كل حيوان! كيف توصل لهذا على الرغم من قلة خبرته الطبية؟! لأنه عبقري بالطبع! كيف تتصور أن أينشتاين قد توصل لنظرية الأمواج التثاقلية في زمن شحيح الإمكانات ومضطرب بالحروب، ليمر قرن كامل قبل أن نستطيع بالفعل رصدها وإثبات وجودها؟ إنها شفافية عقول العلماء النافذة!
ومنذ ذلك الاقتراح الملهم من تورينج، لم ينفك العلماء يلاحظون مدى صحة تلك النظرية المدهشة ووجودها في الكثير من الأمثلة. حيث وجدوا أن تلك الجزيئات هي المسئولة عن النقاط المميزة لجسد الفهود، وخطوط الحمر الوحشية؛ ولمدة 30 عامًا ظل العلماء يقترحون أن تلك الجزئيات نفسها هي المسئولة عن نحت أيدينا وأقدامنا بهذا الشكل، لكن أحدًا لم يستطع تحديد أو اكتشاف تلك الجزيئات على وجه الدقة.
وكي أجعل الطويل المعقد مختصرًا بسيطًا، انتهت شكوك العلماء في مركز Centre for Genomic Regulation في النهاية إلى ثلاثة جزيئات واعدة مرشحة لكي تكون هي المسئولة عن تحديد شكل أطرافنا وعدد أصابعنا في كل منها، وهي جزيئات Bmp / Wnt / sox9. أي أن المسئول في النهاية لم يكن زوجا جزيئات كما توقع تورينج وإنما ثلاثي يعملون معًا وبصفات تنشيط وتثبيط متنوعة؛ فبينما يقوم جزيء Bmp بتنشيط جزيء Sox9، يقوم جزيء Wnt بتثبيط Sox9 والذي بدوره يستطيع تثبيط وكبت الاثنين الآخرين معًا! لقد كنت قريبًا للغاية أيها العبقري تورينج!
وللتأكد من صحة هذا الاكتشاف، قام العلماء القائمون عليه بخلق تجربة محاكاة لإنماء برعم طرفي في المختبر، وأظهرت النتائج أن باستطاعة هذه الجزيئات الثلاثة تحديدًا ترتيب نفسها لتشكيل نمط من خمسة خطوط غضروفية بتنشيط وتثبيط كل منها! ولمزيد من الدقة، قاموا بإزالة أحد تلك الجزيئات ومراقبة سلوك ونمو البرعم الطرفي وتأثير ذلك عليه، ليكتشفوا أن الثلاثة مرتبطين ببعضهم تمامًا ولا يمكن فصلهم للحصول على الأطراف والأصابع كما نعرفها. فعند إزالة الجزيء Sox9، نجد أن الجزيء Sox9 يموت ولا تتكون الأصابع على الإطلاق، بل ينمو البرعم الطرفي ككتلة مشوهة بلا شكل! وعند إزالة الجزيء Wnt، ينشط الجزيء Sox9 في كل مكان وتختفي الفراغات بين الأصابع. لكن عند تثبيط الجزيئان Bmp و Wnt معًا، فإن عدد الإصابع يقل بشكل ملحوظ! مدهش، أليس كذلك؟
من جديد، لماذا 5 أصابع؟
لكن بعد كل هذا، نعود مرة أخرى إلى السؤال الجوهري: لماذا 5 بالذات؟ ما الذي يدفع الجزيئات Bmp / Wnt / sox9 لاعتناق هذا الرقم في البشر على وجه التحديد منذ أن ظهروا على وجه الأرض منذ ما يقرب من نصف مليون عام مضت، وإلى الآن دون تغيير؟ من صاحب اليد العليا في كتابة الكود الخفي الذي يحرك هذه الجزيئات على هذا النحو؟
الإجابة الواضحة والصريحة هنا هي أنه الله عز وجل؛ وهو أمر عقائدي لا مساس به بالطبع هنا. لكننا كذلك نعلم جيدًا أن الله لا يلعب النرد! كل شيء بسبب وهو سبحانه يتحدانا بعلومنا أن نقشر سطح الحكمة والعلم الذي وزعه في كل شيء؛ فهل نفعلها يومًا؟ إذا ما استطعنا تفسير هذا يومًا، فسنستطيع حتمًا تفسير كل شيء … وبالعلم المجرد!
المراجع: Science Mag – LiveScience – NationalgeoGraphic
المصدر: عالم الإبداع